هذا هو ما نطمئن إليه في تفسير تلك الآيات. والله الهادي إلى الصواب.
ولقد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات - بعد الرسل - والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها.. تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أول الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة يحسبونه هم ليس أصيلا فيها، ومجاراتهم في بعض أمرهم كي لا ينفروا من الدعوة ويخاصموها!
ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل وأساليب لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة، ولا مع منهج الدعوة المستقيم. وذلك حرصا على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها. واجتهادا في تحقيق "مصلحة الدعوة" ومصلحة الدعوة الحقيقية في استقامتها على النهج دون انحراف قليل أو كثير. أما النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله. فلا يجوز أن يحسب حملة الدعوة حساب هذه النتائج; إنما يجب أن يمضوا على نهج الدعوة الواضح الصريح الدقيق، وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة لله. ولن تكون إلا خيرا في نهاية المطاف.
وها هو ذا القرآن الكريم ينبههم إلى أن الشيطان يتربص بأمانيهم تلك لينفذ منها إلى صميم الدعوة. وإذا كان الله قد عصم أنبياءه ورسله فلم يمكن للشيطان أن ينفذ من خلال رغباتهم الفطرية إلى دعوتهم. فغير المعصومين في حاجة إلى الحذر الشديد من هذه الناحية، والتحرج البالغ، خيفة أن يدخل عليهم الشيطان من ثغرة الرغبة في نصرة الدعوة والحرص على ما يسمونه "مصلحة الدعوة".. إن كلمة "مصلحة الدعوة" يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات، لأنها مزلة، ومدخل للشيطان يأتيهم منه، حين يعز عليه أن يأتيهم من ناحية مصلحة الأشخاص! ولقد تتحول "مصلحة الدعوة" إلى صنم يتعبده أصحاب الدعوة وينسون معه منهج الدعوة الأصيل!.. إن على أصحاب الدعوة أن يستقيموا على نهجها ويتحروا هذا النهج دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحري من نتائج قد يلوح لهم أن فيها خطرا على الدعوة وأصحابها! فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف عن النهج لسبب من الأسباب، سواء كان هذا الانحراف كثيرا
[ ص: 2436 ] أو قليلا. والله أعرف منهم بالمصلحة وهم ليسوا بها مكلفين. إنما هم مكلفون بأمر واحد. ألا ينحرفوا عن المنهج، وألا يحيدوا عن الطريق..
ويعقب السياق على تلك الآيات وما فيها من صيانة لدعوة الله من كيد الشيطان بأن الذين يكفرون بها مدحورون ينتظرهم العذاب المهين:
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم. الملك يومئذ لله يحكم بينهم. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين .
ذلك شأن الذين كفروا مع القرآن كله، يذكره السياق بعد بيان موقفهم مما يلقي الشيطان في أمنيات الأنبياء والرسل، لما بين الشأنين من تشابه واتصال. فهم لا يزالون في ريبة من القرآن وشك. منشأ هذه الريبة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشته فتدرك ما فيه من حقيقة وصدق. ويظل هذا حالهم
حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم بعد قيام الساعة. ووصف هذا اليوم بالعقيم وصف يلقي ظلا خاصا. فهو يوم لا يعقب.. إنه اليوم الأخير..
في هذا اليوم الملك لله وحده. فلا ملك لأحد، حتى الملك الظاهري الذي كان يظنه الناس في الأرض ملكا. والحكم يومئذ لله وحده، وهو يقضي لكل فريق بجزائه المقسوم:
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم ..
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين .. جزاء الكيد لدين الله، وجزاء التكذيب بآياته البينات. وجزاء الاستكبار عن الطاعة لله والتسليم..