ومن صفات المؤمنين ينتقل إلى دلائل الإيمان في حياة الإنسان ذاته، وفي أطوار وجوده ونموه، مبتدئا بأصل النشأة الإنسانية، منتهيا إلى البعث في الآخرة مع الربط بين الحياتين في السياق:
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما. ثم أنشأناه خلقا آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ..
وفي أطوار هذه النشأة، وتتابعها بهذا النظام، وبهذا الاطراد، ما يشهد بوجود المنشئ أولا، وما يشهد بالقصد والتدبير في تلك النشأة وفي اتجاهها أخيرا. فما يمكن أن يكون الأمر مصادفة عابرة، ولا خبط عشواء بدون قصد ولا تدبير; ثم تسير هذه السيرة التي لا تنحرف، ولا تخطئ، ولا تتخلف; ولا تسير في طريق آخر من شتى الطرق التي يمكن عقلا وتصورا أن تسير فيها. إنما تسير النشأة الإنسانية في هذا الطريق دون سواه من شتى الطرق الممكنة بناء على قصد وتدبير من الإرادة الخالقة المدبرة في هذا الوجود.
كما أن في عرض تلك الأطوار بهذا التتابع الدقيق المطرد، ما يشير إلى أن الإيمان بالخالق المدبر، والسير على نهج المؤمنين الذي بينه في المقطع السابق.. هو وحده الطريق إلى بلوغ الكمال المقدر لتلك النشأة; في الحياتين: الدنيا والآخرة. وهذا هو المحور الذي يجمع بين المقطعين في سياق السورة.
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين .. وهذا النص يشير إلى أطوار النشأة الإنسانية ولا يحددها. فيفيد أن الإنسان مر بأطوار مسلسلة، من الطين إلى الإنسان. فالطين هو المصدر الأول، أو الطور الأول. والإنسان هو الطور الأخير.. وهي حقيقة نعرفها من القرآن، ولا نطلب لها مصداقا من النظريات العلمية التي تبحث عن نشأة الإنسان، أو نشأة الأحياء.
إن القرآن يقرر هذه الحقيقة ليتخذها مجالا للتدبر في صنع الله، ولتأمل النقلة البعيدة بين الطين وهذا الإنسان
[ ص: 2458 ] المتسلسل في نشأته من ذلك الطين. ولا يتعرض لتفصيل هذا التسلسل لأنه لا يعنيه في أهدافه الكبيرة. أما النظريات العلمية فتحاول إثبات سلم معين للنشوء والارتقاء، لوصل حلقات السلسلة بين الطين والإنسان. وهي تخطئ وتصيب في هذه المحاولة - التي سكت القرآن عن تفصيلها - وليس لنا أن نخلط بين الحقيقة الثابتة التي يقررها القرآن.. حقيقة التسلسل.. وبين المحاولات العلمية في البحث عن حلقات هذا التسلسل وهي المحاولات التي تخطئ وتصيب، وتثبت اليوم وتنقض غدا، كلما تقدمت وسائل البحث وطرائقه في يد الإنسان.
والقرآن يعبر أحيانا عن تلك الحقيقة باختصار فيقول:
... وبدأ خلق الإنسان من طين .. دون إشارة إلى الأطوار التي مر بها. والمرجع في هذا الأمر إلى النص الأكثر تفصيلا، وهو الذي يشير إلى أنه
من سلالة من طين فالنص الآخر يختصر هذه الأطوار لمناسبة خاصة في السياق هناك.
أما كيف تسلسل الإنسان من الطين فمسكوت عنه كما قلنا لأنه غير داخل في الأهداف القرآنية. وقد تكون حلقاته على النحو الذي تقول به النظريات العلمية وقد لا تكون; وتكون الأطوار قد تمت بطريق آخر لم يعرف بعد، وبسبب عوامل وعلل أخرى لم يكشف عنها الإنسان.. ولكن مفرق الطريق بين نظرة القرآن إلى الإنسان ونظرة تلك النظريات أن القرآن يكرم هذا الإنسان; ويقرر أن فيه نفخة من روح الله هي التي جعلت من سلالة الطين إنسانا، ومنحته تلك الخصائص التي بها صار إنسانا وافترق بها عن الحيوان. وهنا تفترق نظرة الإسلام افتراقا كليا عن نظرة الماديين. والله أصدق القائلين .
ذلك أصل نشأة الجنس الإنساني.. من سلالة من طين.. فأما نشأة الفرد الإنساني بعد ذلك، فتمضي في طريق آخر معروف:
ثم جعلناه نطفة في قرار مكين .. لقد نشأ الجنس الإنساني من سلالة من طين. فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب رجل، فتستقر في رحم امرأة. نقطة مائية واحدة. لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة في تلك النقطة. تستقر:
في قرار مكين .. ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض، المحمية بها من التأثر باهتزازات الجسم، ومن كثير مما يصيب الظهر والبطن من لكمات وكدمات، ورجات وتأثرات!
والتعبير القرآني يجعل النطفة طورا من أطوار النشأة الإنسانية، تاليا في وجوده لوجود الإنسان.. وهي حقيقة. ولكنها حقيقة عجيبة تدعو إلى التأمل، فهذا الإنسان الضخم يختصر ويلخص بكل عناصره وبكل خصائصه في تلك النطفة، كما يعاد من جديد في الجنين وكي يتجدد وجوده عن طريق ذلك التلخيص العجيب.
ومن النطفة إلى العلقة. حينما تمتزج خلية الذكر ببويضة الأنثى، وتعلق هذه بجدار الرحم نقطة صغيرة في أول الأمر، تتغذى بدم الأم..
و من العلقة إلى المضغة، حينما تكبر تلك النقطة العالقة، وتتحول إلى قطعة من دم غليظ مختلط..
وتمضي هذه الخليقة في ذلك الخط الثابت الذي لا ينحرف ولا يتحول، ولا تتوانى حركته المنظمة الرتيبة.
[ ص: 2459 ] وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير.. حتى تجيء مرحلة العظام..
فخلقنا المضغة عظاما فمرحلة كسوة العظام باللحم:
فكسونا العظام لحما .. وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة التشريحي. ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم. وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين. ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام، وتمام الهيكل العظمي للجنين. وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني:
فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما .. فسبحان العليم الخبير!
ثم أنشأناه خلقا آخر .. هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة. فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية. ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقا آخر، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة، المستعدة للارتقاء. ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان، مجردا من خصائص الارتقاء والكمال، التي يمتاز بها جنين الإنسان.
إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد. وهو ينشأ
خلقا آخر في آخر أطواره الجنينية; بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص. ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطورا آليا - كما تقول النظريات المادية - فهما نوعان مختلفان. اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنسانا. واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني
خلقا آخر . إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني; ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه لا يتعداه. ويتحول الإنسان خلقا آخر قابلا لما هو مهيأ له من الكمال. بواسطة خصائص مميزة، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان .
فتبارك الله أحسن الخالقين .. وليس هناك من يخلق سوى الله. فأحسن هنا ليست للتفضيل، إنما هي للحسن المطلق في خلق الله.
فتبارك الله أحسن الخالقين .. الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف، حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني، على أدق ما يكون النظام!
وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه "معجزات العلم" حين يصنع الإنسان جهازا يتبع طريقا خاصا في تحركه، دون تدخل مباشر من الإنسان.. فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته،
[ ص: 2460 ] وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها. وتحولات كاملة في ماهيتها؟ غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون، مغلقي القلوب، لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب.. وإن مجرد التفكر في أن الإنسان - هذا الكائن المعقد - كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة; وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عند ما ينشأ خلقا آخر. فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة أخرى. وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة. هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة.. إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب..
ثم يتابع السياق خطاه لاستكمال مراحل الرحلة، وأطوار النشأة. فالحياة الإنسانية التي نشأت من الأرض لا تنتهي في الأرض، لأن عنصرا غير أرضي قد امتزج بها، وتدخل في خط سيرها; ولأن تلك النفخة العلوية قد جعلت لها غاية غير غاية الجسد الحيواني، ونهاية غير نهاية اللحم والدم القريبة; وجعلت كمالها الحقيقي لا يتم في هذه الأرض، ولا في هذه الحياة الدنيا; إنما يتم هنالك في مرحلة جديدة وفي الحياة الأخرى:
ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ..
فهو الموت نهاية الحياة الأرضية، وبرزخ ما بين الدنيا والآخرة. وهو إذن طور من أطوار النشأة الإنسانية وليس نهاية الأطوار.
ثم هو البعث المؤذن بالطور الأخير من أطوار تلك النشأة. وبعده تبدأ الحياة الكاملة، المبرأة من النقائص الأرضية، ومن ضرورات اللحم والدم، و من الخوف والقلق، ومن التحول والتطور لأنها نهاية الكمال المقدر لهذا الإنسان. ذلك لمن يسلك طريق الكمال. الطريق الذي رسمه المقطع الأول في السورة. طريق المؤمنين فأما من ارتكس في مرحلة الحياة الدنيا إلى درك الحيوان، فهو صائر في الحياة الأخرى إلى غاية الارتكاس. حيث تهدر آدميته، ويستحيل حصبا من حصب جهنم، وقودا للنار، التي وقودها الناس والحجارة. والناس من هذا الصنف هو والحجارة سواء!