ويمضي السياق بعد ذلك في استعراض القرون:
ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين. ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون. ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه. فأتبعنا بعضهم بعضا، وجعلناهم أحاديث. فبعدا لقوم لا يؤمنون ..
هكذا في إجمال، يلخص تاريخ الدعوة، ويقرر سنة الله الجارية، في الأمد الطويل بين
نوح وهود في أول السلسلة،
وموسى وعيسى في أواخرها.. كل قرن يستوفي أجله ويمضي:
ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون . وكلهم يكذبون:
كل ما جاء أمة رسولها كذبوه . وكلما كذب المكذبون أخذتهم سنة الله:
فأتبعنا بعضهم بعضا . وبقيت العبرة ماثلة في مصارعهم لمن يعتبرون:
وجعلناهم أحاديث تتناقلها القرون.
ويختم هذا الاستعراض الخاطف المجمل باللعنة والطرد والاستبعاد من العيون والقلوب:
فبعدا لقوم لا يؤمنون .
ثم يجمل قصة موسى في الرسالة والتكذيب لتتمشى مع نسق العرض وهدفه المقصود:
ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين. فقالوا: أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون؟ فكذبوهما فكانوا من المهلكين .
ويبرز في هذا الاستعراض الاعتراض ذاته على بشرية الرسل:
فقالوا: أنؤمن لبشرين مثلنا . ويريد عليه تلك الملابسة الخاصة بوضع بني إسرائيل في
مصر :
وقومهما لنا عابدون مسخرون خاضعون. وهي أدعى - في اعتبار
فرعون وملئه - إلى الاستهانة
بموسى وهارون !
فأما آيات الله التي معهما، وسلطانه الذي بأيديهما، فكل هذا لا إيقاع له في مثل تلك القلوب المطموسة،
[ ص: 2469 ] المستغرقة في ملابسات هذه الأرض، وأوضاعها الباطلة، وقيمها الرخيصة.
وإشارة مجملة إلى
عيسى ابن مريم وأمه. والآية البارزة في خلقه. وهي كآيات
موسى كذب بها المكذبون.
ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون. وجعلنا ابن مريم وأمه آية، وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ..
وتختلف الروايات في تحديد الربوة المشار إليها في هذا النص.. أين هي؟ أكانت في
مصر ، أم في
دمشق ، أم في
بيت المقدس .. وهي الأماكن التي ذهبت إليها مريم بابنها في طفولته وصباه - كما تذكر كتبهم - وليس المهم تحديد موضعها، إنما المقصود هو الإشارة إلى إيواء الله لهما في مكان طيب، ينضر فيه النبت، ويسيل فيه الماء، ويجدان فيه الرعاية والإيواء.
وعند ما يصل إلى هذه الحلقة من سلسلة الرسالات، يتوجه بالخطاب إلى أمة الرسل; وكأنما هم متجمعون في صعيد واحد، في وقت واحد، فهذه الفوارق الزمانية والمكانية لا اعتبار لها أمام وحدة الحقيقة التي تربط بينهم جميعا:
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا. إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ..
إنه نداء للرسل ليمارسوا طبيعتهم البشرية التي ينكرها عليهم الغافلون:
كلوا من الطيبات .. فالأكل من مقتضيات البشرية عامة، أما الأكل من الطيبات خاصة فهو الذي يرفع هذه البشرية ويزكيها ويصلها بالملإ الأعلى.
ونداء لهم ليصلحوا في هذه الأرض:
واعملوا صالحا .. فالعمل هو من مقتضيات البشرية كذلك. أما العمل الصالح فهو الذي يميز الصالحين المختارين; فيجعل لعملهم ضابطا وهدفا، وغاية موصولة بالملإ الأعلى.
وليس المطلوب من الرسول أن يتجرد من بشريته. إنما المطلوب أن يرتقي بهذه البشرية فيه إلى أفقها الكريم الوضيء، الذي أراده الله لها، وجعل الأنبياء روادا لهذا الأفق ومثلا أعلى. والله هو الذي يقدر عملهم بعد ذلك بميزانه الدقيق:
إني بما تعملون عليم .
وتتلاشى آماد الزمان، وأبعاد المكان، أمام وحدة الحقيقة التي جاء بها الرسل. ووحدة الطبيعة التي تميزهم. ووحدة الخالق الذي أرسلهم. ووحدة الاتجاه الذي يتجهونه أجمعين:
وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ..