ثم يمضي في التعقيب على
حديث الإفك; وما تخلف عنه من آثار مكررا التحذير من مثله، مذكرا بفضل الله ورحمته، متوعدا من يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات بعذاب الله في الآخرة. ذلك مع تنقية النفوس من آثار المعركة; وإطلاقها من ملابسات الأرض، وإعادة الصفاء إليها والإشراق.. كما تتمثل في موقف
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر - رضي الله عنه - من قريبه
nindex.php?page=showalam&ids=7927مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك مع من خاض:
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ..
والذين يرمون المحصنات - وبخاصة أولئك الذين تجرؤوا على رمي بيت النبوة الكريم - إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة; وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة، وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها، بذلك تشيع الفاحشة في النفوس، لتشيع بعد ذلك في الواقع.
من أجل هذا وصف الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
وذلك جانب من منهج التربية، وإجراء من إجراءات الوقاية، يقوم على خبرة بالنفس البشرية، ومعرفة بطريقة تكيف مشاعرها واتجاهاتها.. ومن ثم يعقب بقوله:
والله يعلم وأنتم لا تعلمون .. ومن ذا الذي
[ ص: 2504 ] يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي برأها؟ ومن ذا الذي يرى الظاهر والباطن، ولا يخفى على علمه شيء إلا العليم الخبير؟
ومرة أخرى يذكر المؤمنين بفضل الله عليهم ورحمته:
ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم ..
إن الحديث لعظيم، وإن الخطأ لجسيم، وإن الشر الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء، ولكن فضل الله ورحمته، ورأفته ورعايته، ذلك ما وقاهم السوء، ومن ثم يذكرهم به المرة بعد المرة; وهو يربيهم بهذه التجربة الضخمة التي شملت حياة المسلمين.
فإذا تمثلوا أن ذلك الشر العظيم كان وشيكا أن يصيبهم جميعا، لولا فضل الله ورحمته، صور لهم عملهم بأنه اتباع لخطوات الشيطان، وما كان لهم أن يتبعوا خطوات عدوهم وعدو أبيهم من قديم، وحذرهم ما يقودهم الشيطان إليه من مثل هذا الشر المستطير:
يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر. ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء، والله سميع عليم ..
وإنها لصورة مستنكرة أن يخطو الشيطان فيتبع المؤمنون خطاه، وهم أجدر الناس أن ينفروا من الشيطان وأن يسلكوا طريقا غير طريقه المشئوم! صورة مستنكرة ينفر منها طبع المؤمن، ويرتجف لها وجدانه، ويقشعر لها خياله! ورسم هذه الصورة ومواجهة المؤمنين بها يثير في نفوسهم اليقظة والحذر والحساسية:
ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر .. وحديث الإفك نموذج من هذا المنكر الذي قاد إليه المؤمنين الذين خاضوا فيه، وهو نموذج منفر شنيع.
وإن الإنسان لضعيف، معرض للنزعات، عرضة للتلوث، إلا أن يدركه فضل الله ورحمته، حين يتجه إلى الله، ويسير على نهجه.
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا. ولكن الله يزكي من يشاء ..
فنور الله الذي يشرق في القلب يطهره ويزكيه، ولولا فضل الله ورحمته لم يزك من أحد ولم يتطهر، والله يسمع ويعلم، فيزكي من يستحق التزكية، ويطهر من يعلم فيه الخير والاستعداد
والله سميع عليم ..
وعلى ذكر التزكية والطهارة تجيء الدعوة إلى الصفح والمغفرة بين بعض المؤمنين وبعض - كما يرجون غفران الله لما يرتكبونه من أخطاء وذنوب - :
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا. ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ والله غفور رحيم ..
نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر - رضي الله عنه - بعد نزول القرآن ببراءة الصديقة، وقد عرف أن
nindex.php?page=showalam&ids=7927مسطح بن أثاثة كان ممن خاضوا فيه، وهو قريبه، وهو من فقراء المهاجرين، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر - رضي الله عنه - ينفق عليه، فآلى على نفسه لا ينفع
nindex.php?page=showalam&ids=7927مسطحا بنافعة أبدا.
نزلت هذه الآية تذكر
nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر ، وتذكر المؤمنين، بأنهم هم يخطئون ثم يحبون من الله أن يغفر لهم. فليأخذوا أنفسهم - بعضهم مع بعض - بهذا الذي يحبونه، ولا يحلفوا أن يمنعوا البر عن مستحقيه، إن كانوا قد أخطئوا وأساءوا..
[ ص: 2505 ] وهنا نطلع على أفق عال من آفاق النفوس الزكية، التي تطهرت بنور الله، أفق يشرق في نفس
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أبي بكر الذي مسه حديث الإفك في أعماق قلبه، والذي احتمل مرارة الاتهام لبيته وعرضه؛ فما يكاد يسمع دعوة ربه إلى العفو; وما يكاد يلمس وجدانه ذلك السؤال الموحي:
ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ حتى يرتفع على الآلام، ويرتفع على مشاعر الإنسان، ويرتفع على منطق البيئة، وحتى تشف روحه وترف وتشرق بنور الله، فإذا هو يلبي داعي الله في طمأنينة وصدق يقول: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، ويعيد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، ويحلف: والله لا أنزعها منه أبدا؛ ذلك في مقابل ما حلف، والله لا أنفعه بنافعة أبدا.
بذلك يمسح الله على آلام ذلك القلب الكبير، ويغسله من أوضار المعركة، ليبقى أبدا نظيفا طاهرا زكيا مشرقا بالنور..
ذلك الغفران الذي يذكر الله المؤمنين به؛ إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار، كأمثال ابن أبي فلا سماحة ولا عفو، ولو أفلتوا من الحد في الدنيا، لأن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة، ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود:
إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين ..
ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها; وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارات غير آخذات حذرهن من الرمية، وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئا، لأنهن لم يأتين شيئا يحذرنه! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة، ومن ثم يعاجل مقتر فيها باللعنة. لعنة الله لهم، وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة، ثم يرسم ذلك المشهد الأخاذ:
يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ..
فإذا بعضهم يتهم بعضا بالحق، إذ كانوا يتهمون المحصنات الغافلات المؤمنات بالإفك! وهي مقابلة في المشهد مؤثرة، على طريقة التناسق الفني في التصوير القرآني.
يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق .. ويجزيهم جزاءهم العدل، ويؤدي لهم حسابهم الدقيق، ويومئذ يستيقنون مما كانوا يستريبون:
ويعلمون أن الله هو الحق المبين ..
ويختم الحديث عن حادث الإفك ببيان عدل الله في اختياره الذي ركبه في الفطرة، وحققه في واقع الناس، وهو أن تلتئم النفس الخبيثة بالنفس الخبيثة، وأن تمتزج النفس الطيبة بالنفس الطيبة.وعلى هذا تقوم العلاقات بين الأزواج، وما كان يمكن أن تكون
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة - رضي الله عنها - كما رموها، وهي مقسومة لأطيب نفس على ظهر هذه الأرض:
الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات. والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات. أولئك مبرءون مما يقولون، لهم مغفرة ورزق كريم ..
ولقد أحبت نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة حبا عظيما، فما كان يمكن أن يحببها الله لنبيه
[ ص: 2506 ] المعصوم، إن لم تكن طاهرة تستحق هذا الحب العظيم.
أولئك الطيبون والطيبات
مبرءون مما يقولون بفطرتهم وطبيعتهم، لا يلتبس بهم شيء مما قيل.
لهم مغفرة ورزق كريم .. مغفرة عما يقع منهم من أخطاء، ورزق كريم، دلالة على كرامتهم عند ربهم الكريم.
بذلك ينتهي حديث الإفك، ذلك الحادث الذي تعرضت فيه الجماعة المسلمة لأكبر محنة، إذ كانت محنة الثقة في طهارة بيت الرسول، وفي عصمة الله لنبيه أن يجعل في بيته إلا العنصر الطاهر الكريم، وقد جعلها الله معرضا لتربية الجماعة المسلمة، حتى تشف وترف; وترتفع إلى آفاق النور، في سورة النور..