[ ص: 2583 ] (26)
سورة الشعراء مكية وآياتها سبع وعشرون ومائتان
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم (1)
تلك آيات الكتاب المبين (2)
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3)
إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين (4)
وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين (5)
فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون (6)
أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم (7)
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (8)
وإن ربك لهو العزيز الرحيم (9)
موضوع هذه السورة الرئيسي هو موضوع السور المكية جميعا؛ العقيدة ملخصة في عناصرها الأساسية: توحيد الله:
فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين والخوف من الآخرة:
ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم والتصديق بالوحي المنزل على
محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين .. ثم التخويف من عاقبة التكذيب; إما بعذاب الدنيا الذي يدمر المكذبين وإما بعذاب الآخرة الذي ينتظر الكافرين:
فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ! ..
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ذلك إلى تسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعزيته عن تكذيب المشركين له وللقرآن:
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين وإلى طمأنة قلوب المؤمنين وتصبيرهم على ما يلقون من عنت المشركين; وتثبيتهم على العقيدة مهما أوذوا في سبيلها من الظالمين; كما ثبت من قبلهم من المؤمنين.
وجسم السورة هو القصص الذي يشغل ثمانين ومائة آية من مجموع آيات السورة كلها والسورة هي هذا القصص مع مقدمة وتعقيب، والقصص والمقدمة والتعقيب تؤلف وحدة متكاملة متجانسة، تعبر عن موضوع السورة وتبرزه في أساليب متنوعة، تلتقي عند هدف واحد، ومن ثم تعرض من كل قصة الحلقة أو الحلقات التي تؤدي هذه الأغراض.
[ ص: 2584 ] ويغلب على القصص كما يغلب على السورة كلها جو الإنذار والتكذيب، والعذاب الذي يتبع التكذيب، ذلك أن السورة تواجه تكذيب مشركي
قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستهزاءهم بالنذر، وإعراضهم عن آيات الله، واستعجالهم بالعذاب الذي يوعدهم به; مع التقول على الوحي والقرآن; والادعاء بأنه سحر أو شعر تتنزل به الشياطين!
والسورة كلها شوط واحد –مقدمتها وقصصها وتعقيبها - في هذا المضمار؛ لذلك نقسمها إلى فقرات أو جولات بحسب ترتيبها، ونبدأ بالمقدمة قبل القصص المختار :
طسم. تلك آيات الكتاب المبين ..
طا. سين. ميم.. الأحرف المقطعة للتنبيه إلى أن آيات الكتاب المبين - ومنها هذه السورة - مؤلفة من مثل هذه الأحرف; وهي في متناول المكذبين بالوحي; وهم لا يستطيعون أن يصوغوا منها مثل هذا الكتاب المبين، والحديث عن هذا الكتاب متداول في السورة، في مقدمتها ونهايتها، كما هو الشأن في السور المبدوءة بالأحرف المقطعة في القرآن.
وبعد هذا التنبيه يبدأ في مخاطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يهمه أمر المشركين ويؤذيه تكذيبهم له وللقرآن الكريم; فيسليه ويهون عليه الأمر; ويستكثر ما يعانيه من أجلهم; وقد كان الله قادرا على أن يلوي أعناقهم كرها إلى الإيمان بآية قاهرة تقسرهم عليه قسرا:
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين .
وفي التعبير ما يشبه العتب على شدة ضيقه - صلى الله عليه وسلم - وهمه بعدم إيمانهم:
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين .. وبخع النفس قتلها، وهذا يصور مدى ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعاني من تكذيبهم، وهو يوقن بما ينتظرهم بعد التكذيب، فتذوب نفسه عليهم - وهم أهله وعشيرته وقومه - ويضيق صدره؛ فربه يرأف به، وينهنهه عن هذا الهم القاتل، ويهون عليه الأمر، ويقول له: إن إيمانهم ليس مما كلفت ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالا، ولا انصرافا عن الإيمان، ويصور خضوعهم لهذه الآية صورة حسية:
فظلت أعناقهم لها خاضعين ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم، فهم عليها مقيمون!
ولكنه - سبحانه - لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة، لقد جعل آيتها القرآن، منهاج حياة كاملة، معجزا في كل ناحية:
معجزا في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني، باستقامته على خصائص واحدة، في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصه; كما هي الحال في أعمال البشر، إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد، المتغير الحالات، بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد، ثابت لا يتخلف، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال.
معجزا في بنائه الفكري، وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة، كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل; وتحيط بالحياة البشرية، وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى; ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها، وكلها مشدودة إلى محور واحد، وإلى عروة واحدة، في اتساق لا يمكن أن تفطن
[ ص: 2585 ] إليه خبرة الإنسان المحدودة، ولا بد أن تكون هناك خبرة مطلقة، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان، هي التي أحاطت به هذه الإحاطة، ونظمته هذا التنظيم.
معجزا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها، وفتح مغاليقها، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين; وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة.
لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة - ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم - ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها، وللأجيال كلها، وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان، فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب، لكل أمة ولكل جيل، والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها; ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى، لا واقعا يشهد، فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا كتاب مفتوح ومنهج مرسوم، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم - لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم - ويلبي حاجاتهم كاملة; ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ومصير أمثل، وسيجد فيه من بعدنا كثيرا مما لم نجده نحن; ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته; ويبقى رصيده لا ينفد، بل يتجدد، ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى، فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حينا بعد حين:
وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين ..
ويذكر اسم الرحمن هنا للإشارة إلى عظيم رحمته بتنزيل هذا الذكر، فيبدو إعراضهم عنه مستقبحا كريها; وهم يعرضون عن الرحمة التي تتنزل عليهم، ويرفضونها، ويحرمون أنفسهم منها، وهم أحوج ما يكونون إليها!
ويعقب على هذا الإعراض عن ذكر الله ورحمته بالتهديد بعقابه وعذابه:
فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ..
وهو تهديد مضمر مجمل مهول، وفي التعبير سخرية تناسب استهزاءهم بالوعيد
فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ستأتيهم أخبار العذاب الذي يستهزئون به! وهم لن يتلقوا أخبارا، إنما سيذوقون العذاب ذاته، ويصبحون هم أخبارا فيه، يتناقل الناس ما حل بهم منه، ولكنهم يستهزئون فيستهزأ بهم مع التهديد المرهوب!
وإنهم يطلبون آية خارقة; ويغفلون عن آيات الله الباهرة; فيما حولهم وفيها الكفاية للقلب المفتوح والحس البصير; وكل صفحة من صفحات هذا الكون العجيب آية تطمئن بها القلوب.
أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم؟ إن في ذلك لآية، وما كان أكثرهم مؤمنين ..
ومعجزة إخراج النبات الحي من الأرض، وجعله زوجا ذكرا وأنثى، إما منفصلين كما في بعض فصائل النبات، وإما مجتمعين كما هو الغالب في عالم النبات، حيث تجتمع أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث في عود واحد، هذه المعجزة تتكرر في الأرض حولهم في كل لحظة:
أولم يروا! والأمر لا يحتاج إلى أكثر من الرؤية؟
والمنهج القرآني في التربية يربط بين القلب ومشاهد هذا الكون; وينبه الحس الخامد، والذهن البليد، والقلب المغلق، إلى بدائع صنع الله المبثوثة حول الإنسان في كل مكان; كي يرتاد هذا الكون الحي بقلب حي; يشاهد الله في بدائع صنعه، ويشعر به كلما وقعت عينه على بدائعه; ويتصل به في كل مخلوقاته;
[ ص: 2586 ] ويراقبه وهو شاعر بوجوده في كل لحظة من لحظات الليل والنهار، ويشعر أنه هو واحد من عباده، متصل بمخلوقاته، مرتبط بالنواميس التي تحكمهم جميعا، وله دوره الخاص في هذا الكون، وبخاصة هذه الأرض التي استخلف فيها :
أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ..
كريم بما فيه من حياة، صادرة من الله الكريم، واللفظ يوحي إلى النفس باستقبال صنع الله بما يليق من التكريم والحفاوة والاحتفال; لا بالاستهانة والغفلة والإغفال..
إن في ذلك لآية . وهم يطلبون الآيات، ولكن أكثرهم لا يؤمن بهذه الآية:
وما كان أكثرهم مؤمنين !
وتنتهي مقدمة السورة بالتعقيب الذي يتكرر في السورة بعد استعراض كل آية :
وإن ربك لهو العزيز الرحيم ..
العزيز القوي القادر على إبداع الآيات، وأخذ المكذبين بالعذاب الرحيم الذي يكشف عن آياته، فيؤمن بها من يهتدي قلبه; ويمهل المكذبين; فلا يعذبهم حتى يأتيهم نذير، وفي آيات الكون غنى ووفرة، ولكن رحمته تقتضي أن يبعث بالرسل للتبصير والتنوير، والتبشير والتحذير.