ووردت في سورة الحج إشارة إلى أمر بتطهير البيت للطائفين والعاكفين..
[ ص: 2602 ] واتل عليهم نبأ إبراهيم، إذ قال لأبيه وقومه : ما تعبدون؟ ..
اتل عليهم نبأ
إبراهيم الذي يزعمون أنهم ورثته، وأنهم يتبعون ديانته. اتله عليهم وهو يستنكر ما كان يعبده أبوه وقومه من أصنام كهذه الأصنام التي يعبدها المشركون في
مكة ; وهو يخالف أباه وقومه في شركهم، وينكر عليهم ما هم عليه من ضلال، ويسألهم في عجب واستنكار: "ما تعبدون؟".
قالوا : نعبد أصناما فنظل لها عاكفين !
وهم كانوا يسمون أصنامهم آلهة. فحكاية قولهم: إنها أصنام. تنبئ بأنهم لم يكونوا يملكون إنكار أنها أصنام منحوتة من الحجر، وأنهم مع ذلك يعكفون لها، ويدأبون على عبادتها. وهذه نهاية السخف. ولكن العقيدة متى زاغت لم يفطن أصحابها إلى ما تنحط إليه عبادتهم وتصوراتهم ومقولاتهم!
ويأخذ
إبراهيم - عليه السلام - يوقظ قلوبهم الغافية، وينبه عقولهم المتبلدة، إلى هذا السخف الذي يزاولونه دون وعي ولا تفكير:
قال هل يسمعونكم إذ تدعون؟ أو ينفعونكم أو يضرون؟
فأقل ما يتوفر لإله يعبد أن يكون له سمع كعابده الذي يتوجه إليه بالعبادة والابتهال! وهذه الأصنام لا تسمع عبادها وهم يتوجهون إليها بالعبادة، ويدعونها للنفع والضر. فإن كانت صماء لا تسمع فهل هي تملك النفع والضر؟ لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعوه!
ولم يجب القوم بشيء عن هذا فهم لا يشكون في أن
إبراهيم إنما يتهكم ويستنكر; وهم لا يملكون حجة لدفع ما يقول. فإذا تكلموا كشفوا عن التحجر الذي يصيب المقلدين بلا وعي ولا تفكير:
قالوا : بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ..
إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها، فعكفنا عليها وعبدناها!
وهو جواب مخجل. ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه، كما لم يخجل المشركون في
مكة أن يفعلوه. فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلا باعتباره دون بحث; بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم، فيخلوا باعتبار أولئك الآباء، ويقروا أنهم كانوا على ضلال. وهذا ما لا يجوز في حق الذاهبين! وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء في وجه الحق، فيؤثرونها على الحق، في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس، فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير.
وأمام ذلك التحجر لم يجد
إبراهيم - على حلمه وأناته - إلا أن يهزهم بعنف، ويعلن عداوته للأصنام، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات!
قال : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ..
وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون، أن يفارقهم بعقيدته، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم، هم وآباؤهم - وهم آباؤه - الأقدمون!
وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم; وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان. وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون.
واستثنى إبراهيم "رب العالمين" من عدائه لما يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون:
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين .. فقد يكون من آبائهم الأقدمين من عبد الله قبل أن تفسد عقيدة القوم وتنحرف; وقد يكون من عبد الله ولكن
[ ص: 2603 ] أشرك معه آلهة أخرى مدعاة. فهو الاحتياط إذن في القول، والدقة الواعية في التعبير، الجديران
بإبراهيم - عليه السلام - في مجال التحدث عن العقيدة وموضوعها الدقيق.
ثم يأخذ
إبراهيم - عليه السلام - في صفة ربه. رب العالمين. وصلته به في كل حال وفي كل حين. فنحس القربى الوثيقة، والصلة الندية، والشعور بيد الله في كل حركة ونأمة، وفي كل حاجة وغاية.
الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ..
ونستشعر من صفة
إبراهيم لربه، واسترساله في تصوير صلته به، أنه يعيش بكيانه كله مع ربه. وأنه يتطلع إليه في ثقة، ويتوجه إليه في حب; وأنه يصفه كأنه يراه، ويحس وقع إنعامه وإفضاله عليه بقلبه ومشاعره وجوارحه.. والنغمة الرخية في حكاية قوله في القرآن تساعد على إشاعة هذا الجو وإلقاء هذا الظل، بالإيقاع العذب الرخي اللين المديد..
الذي خلقني فهو يهدين .. الذي أنشأني من حيث يعلم ولا أعلم; فهو أعلم بماهيتي وتكويني، ووظائفي ومشاعر، وحالي ومآلي :
فهو يهدين إليه، وإلى طريقي الذي أسلكه، وإلى نهجي الذي أسير عليه. وكأنما يحس
إبراهيم - عليه السلام - أنه عجينة طيعة في يد الصانع المبدع، يصوغها كيف شاء، على أي صورة أراد. إنه الاستسلام المطلق في طمأنينة وراحة وثقة ويقين.
والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين .. فهي الكفالة المباشرة الحانية الراعية، الرفيقة الودود، يحس بها
إبراهيم في الصحة والمرض. ويتأدب بأدب النبوة الرفيع، فلا ينسب مرضه إلى ربه - وهو يعلم أنه بمشيئة ربه يمرض ويصح - إنما يذكر ربه في مقام الإنعام والإفضال إذ يطعمه ويسقيه.. ويشفيه، ولا يذكره في مقام الابتلاء حين يبتليه.
والذي يميتني ثم يحيين .. فهو الإيمان بأن الله هو الذي يقضي الموت، وهو الإيمان بالبعث والنشور في استسلام ورضى عميق.
والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين .. فأقصى ما يطمع فيه
إبراهيم - عليه السلام - النبي الرسول الذي يعرف ربه هذه المعرفة، ويشعر بربه هذا الشعور، ويحس في قرارة نفسه هذه القربى، أقصى ما يطمع فيه أن يغفر له ربه خطيئته يوم الدين، فهو لا يبرئ نفسه، وهو يخشى أن تكون له خطيئة، وهو لا يعتمد على عمله، ولا يرى أنه يستحق بعمله شيئا، إلا أنه يطمع في فضل ربه، ويرجو في رحمته، وهذا وحده هو الذي يطمعه في العفو والمغفرة.
إنه شعور التقوى، وشعور الأدب، وشعور التحرج; وهو الشعور الصحيح بقيمة نعمة الله وهي عظيمة عظيمة، وقيمة عمل العبد وهو ضئيل ضئيل.
وهكذا يجمع
إبراهيم في صفة ربه عناصر العقيدة الصحيحة: توحيد الله رب العالمين، والإقرار بتصريفه للبشر في أدق شئون حياتهم على الأرض. والبعث والحساب بعدالموت وفضل الله وتقصير العبد. وهي العناصر التي ينكرها قومه، وينكرها المشركون.
ثم يأخذ
إبراهيم الأواه المنيب في دعاء رخي مديد، يتوجه به إلى ربه في إيمان وخشوع;
رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين. واجعل لي لسان صدق في الآخرين. واجعلني من ورثة جنة النعيم. [ ص: 2604 ] واغفر لأبي إنه كان من الضالين. ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم ..
والدعاء كله ليس فيه طلب لعرض من أعراض هذه الأرض; ولا حتى صحة البدن. إنه دعاء يتجه إلى آفاق أعلى; تحركه مشاعر أصفى. ودعاء القلب الذي عرف الله فأصبح يحتقر ما عداه، والذي ذاق فهو يطلب المزيد والذي يرجو ويخاف في حدود ما ذاق وما يريد.