رب هب لي حكما .. أعطني الحكمة التي أعرف بها القيم الصحيحة والقيم الزائفة، فأبقى على الدرب يصلني بما هو أبقى.
"
وألحقني بالصالحين " .. يقولها
إبراهيم النبي الكريم الأواه الحليم. فيا للتواضع! ويا للتحرج! ويا للإشفاق من التقصير! ويا للخوف من تقلب القلوب! ويا للحرص على مجرد اللحاق بالصالحين! بتوفيق من ربه إلى العمل الصالح الذي يلحقه بالصالحين!
واجعل لي لسان صدق في الآخرين .. دعوة تدفعه إليها الرغبة في الامتداد، لا بالنسب ولكن بالعقيدة; فهو يطلب إلى ربه أن يجعل له فيمن يأتون أخيرا لسان صدق يدعوهم إلى الحق، ويردهم إلى الحنيفية السمحاء دين
إبراهيم. ولعلها هي دعوته في موضع آخر. إذ يرفع قواعد
البيت الحرام هو وابنه
إسماعيل ثم يقول :
ربنا واجعلنا مسلمين لك. ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم .. وقد استجاب الله له، وحقق دعوته، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. وكانت الاستجابة بعد آلاف من السنين. هي في عرف الناس أمد طويل، وهي عند الله أجل معلوم، تقتضي حكمته أن تتحقق الدعوة المستجابة فيه.
واجعلني من ورثة جنة النعيم .. وقد دعا ربه - من قبل - أن يلحقه بالصالحين، بتوفيقه إلى العمل الصالح، الذي يسلكه في صفوفهم. وجنة النعيم يرثها عباد الله الصالحون.
واغفر لأبي إنه كان من الضالين .. ذلك على الرغم مما لقيه
إبراهيم - عليه السلام - من أبيه من غليظ القول وبالغ التهديد. ولكنه كان قد وعده أن يستغفر له، فوفى بوعده. وقد بين القرآن فيما بعد أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى; وقرر أن
إبراهيم استغفر لأبيه بناء على موعدة وعدها إياه "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه" وعرف أن القرابة ليست قرابة النسب، إنما هي قرابة العقيدة.. وهذه إحدى مقومات التربية الإسلامية الواضحة. فالرابطة الأولى هي رابطة العقيدة في الله، ولا تقوم صلة بين فردين من بني البشر إلا على أساسها. فإذا قطعت هذه الصلة أنبتت سائر الوشائج; وكانت البعدى التي لا تبقى معها صلة ولا وشيجة.
ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم .. ونستشف من قولة
إبراهيم - عليه السلام - :
ولا تخزني يوم يبعثون مدى شعوره بهول اليوم الآخر; ومدى حيائه من ربه، وخشيته من الخزي أمامه، وخوفه من تقصيره. وهو النبي الكريم. كما نستشف من قوله :
يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم. وإدراكه كذلك لحقيقة القيم. فليست هنالك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص. إخلاص القلب كله لله، وتجرده من كل شائبة، ومن كل مرض، ومن كل غرض. وصفائه من الشهوات والانحرافات. وخلوه من التعلق بغير الله. فهذه سلامته التي
[ ص: 2605 ] تجعل له قيمة ووزنا
يوم لا ينفع مال ولا بنون ; ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائلة الباطلة، التي يتكالب عليها المتكالبون في الأرض; وهي لا تزن شيئا في الميزان الأخير!.
وهنا يرد مشهد من مشاهد القيامة يرسم ذلك اليوم الذي يتقيه
إبراهيم; فكأنما هو حاضر، ينظر إليه ويراه، وهو يتوجه لربه بذلك الدعاء الخاشع المنيب :
وأزلفت الجنة للمتقين. وبرزت الجحيم للغاوين. وقيل لهم : أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟ هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ فكبكبوا فيها هم والغاوون، وجنود إبليس أجمعون. قالوا وهم فيها يختصمون : تالله إن كنا لفي ضلال مبين. إذ نسويكم برب العالمين. وما أضلنا إلا المجرمون. فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين! .
لقد قربت الجنة وعرضت للمتقين، الذين كانوا من عذاب ربهم مشفقين. ولقد كشفت الجحيم وأبرزت للغاوين، الذين ضلوا الطريق وكذبوا بيوم الدين، وإنهم لعلى مشهد من الجحيم يقفون، حيث يسمعون التقريع والتأنيب، قبل أن يكبكبوا في الجحيم، إنهم يسألون عما كانوا يعبدون من دون الله - وذلك تساوق مع قصة
إبراهيم وقومه وما كان بينه وبينهم من حوار عما كانوا يعبدون - إنهم ليسألون اليوم: "أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟ "أين هم" هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ " ثم لا يسمع منهم جواب، ولا ينتظر منهم جواب. إنما هو سؤال لمجرد التقريع والتأنيب.
فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون .. كبكبوا.. وإننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ صوت تدافعهم وتكفئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام، وصوت الكركبة الناشئ من الكبكبة، كما ينهار الجرف فتتبعه الجروف. فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه. وإنهم لغاوون ضالون، وقد كبكب معهم جميع الغاوون هم
وجنود إبليس أجمعون . والجميع جنود إبليس. فهو تعميم شامل بعد تخصيص.
ثم نستمع إليهم في الجحيم.. إنهم يقولون لآلهتهم من الأصنام :
تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين فنعبدكم عبادته. إما معه وإما من دونه. الآن يقولونها بعد فوات الأوان! وهم يلقون التبعة على المجرمين منهم، الذين أضلوهم وصدوهم عن الهدى. ثم يفيقون فيعلمون أن الأوان قد فات، وأنه لا جدوى من توزيع التبعات:
فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلا آلهة تشفع، ولا صداقات تنفع.. وإذا لم تكن شفاعة فيما مضى أفلا رجعة إلى الدنيا لنصلح ما فاتنا فيها؟
فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين ! وما هو إلا التمني. فلا رجعة ولا شفاعة فهذا يوم الدين!
ثم يجيء التعقيب المعهود:
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم ..
وهو نفس التعقيب الذي جاء في السورة بعد عرض مصارع
عاد وثمود وقوم
لوط، كما جاء تعقيبا على كل آية من آيات الله وقعت للمكذبين، فهذا المشهد من مشاهد القيامة عوض في سياق السورة عن مصارع المكذبين في الدنيا، إذ يصور نهاية قوم
إبراهيم؛ ونهاية الشرك كافة، وهو موضع العبرة في قصص السورة جميعا، ومشاهد القيامة في القرآن تعرض كأنها واقعة، وكأنما تشهدها الأبصار حين تتلى، وتتملاها المشاعر، وتهتز بها الوجدانات؛ كالمصارع التي تمت على أعين الناس وهم يشهدون.