وهنا يكرر عليهم طلب التقوى والطاعة، بعد اطمئنانهم من ناحية الأجر والاستغلال:
فاتقوا الله وأطيعون .. ولكن القوم يطلعون عليه باعتراض عجيب؛ وهو اعتراض مكرور في البشرية مع كل رسول:
قالوا : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون؟ ..
وهم يعنون بالأرذلين الفقراء؛ وهم السابقون إلى الرسل والرسالات، وإلى الإيمان والاستسلام، لا يصدهم عن الهدى كبرياء فارغة، ولا خوف على مصلحة أو وضع أو مكانة، ومن ثم فهم الملبون السابقون، فأما الملأ من الكبراء فتقعد بهم كبرياؤهم، وتقعد بهم مصالحهم، القائمة على الأوضاع المزيفة، المستمدة من الأوهام
[ ص: 2608 ] والأساطير، التي تلبس ثوب الدين، ثم هم في النهاية يأنفون أن يسويهم التوحيد الخالص بالجماهير من الناس، حيث تسقط القيم الزائفة كلها، وترتفع قيمة واحدة، قيمة الإيمان والعمل الصالح، قيمة واحدة ترفع قوما وتخفض آخرين، بميزان واحد هو ميزان العقيدة والسلوك القويم.
ومن ثم يجيبهم
نوح الجواب الذي يقرر القيم الثابتة; ويحدد اختصاص الرسول، ويدع أمر الناس وحسابهم لله على ما يعملون.
قال : وما علمي بما كانوا يعملون؟ إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون. وما أنا بطارد المؤمنين. إن أنا إلا نذير مبين .
والكبراء يقولون دائما عن الفقراء: إن عاداتهم وأخلاقهم لا ترضي العلية، ولا تطاق في أوساط الطبقة الراقية ذات الحس المرهف والذوق اللطيف! فنوح يقول لهم: إنه لا يطلب إلى الناس شيئا سوى الإيمان - وقد آمنوا - فأما عملهم قبله فموكول إلى الله، وهو الذي يزنه ويقدره، ويجزيهم على الحسنات والسيئات، وتقدير الله هو الصحيح
لو تشعرون بالقيم الحقة التي ترجح في ميزان الله، وما وظيفتي إلا الإنذار والإفصاح :
إن أنا إلا نذير مبين .
فلماأن واجههم
نوح - عليه السلام - بحجته الواضحة ومنطقه المستقيم; وعجزوا عن المضي في الجدل بالحجة والبرهان، لجؤوا إلى ما يلجأ إليه الطغيان كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، لجؤوا إلى التهديد بالقوة المادية الغليظة التي يعتمد عليها الطغاة في كل زمان ومكان، عندما تعوزهم الحجة، ويعجزهم البرهان :
قالوا : لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين ..
وأسفر الطغيان عن وجهه الكالح، وكشف الضلال عن وسيلته الغليظة، وعرف
نوح أن القلوب الجاسية لن تلين
هنا توجه
نوح إلى الولي الوحيد، والناصر الفريد، الذي لا ملجأ سواه للمؤمنين:
قال : رب إن قومي كذبون. فافتح بيني وبينهم فتحا، ونجني ومن معي من المؤمنين .
وربه يعلم أن قومه كذبوه؛ ولكنه البث والشكوى إلى الناصر المعين، وطلب النصفة، ورد الأمر إلى صاحب الأمر:
فافتح بيني وبينهم فتحا يضع الحد الأخير للبغي والتكذيب:
ونجني ومن معي من المؤمنين ..
واستجاب الله لنبيه الذي يتهدده الطغيان بالرجم، لأنه يدعو الناس إلى تقوى الله، وطاعة رسوله، لا يطلب على ذلك أجرا، ولا يبتغي جاها ولا مالا:
فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون. ثم أغرقنا بعد الباقين ..
هكذا في إجمال سريع، يصور النهاية الأخيرة للمعركة بين الإيمان والطغيان في فجر البشرية، ويقرر مصير كل معركة تالية في تاريخ البشرية الطويل.
ثم يجيء التعقيب المكرور في السورة عقب كل آية من آيات الله العزيز الرحيم:
إن في ذلك لآية. وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم ..