[ ص: 2624 ] (27)
سورة النمل مكية وآياتها ثلاث وتسعون
بسم الله الرحمن الرحيم
طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1)
هدى وبشرى للمؤمنين (2)
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (3)
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون (4)
أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون (5)
وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم (6)
هذه السورة مكية نزلت بعد الشعراء; وهي تمضي على نسقها في الأداء: مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه; وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع، ويؤكده، ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في
مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتى الأمم، للعبرة والتدبر في سنن الله وسنن الدعوات.
وموضوع السورة الرئيسي - كسائر السور المكية - هو العقيدة: الإيمان بالله، وعبادته وحده، والإيمان بالآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب، والإيمان بالوحي وأن الغيب كله لله، لا يعلمه سواه، والإيمان بأن الله هو الخالق الرازق واهب النعم وتوجيه القلب إلى شكر أنعم الله على البشر، والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله.
ويأتي القصص لتثبيت هذه المعاني; وتصوير عاقبة المكذبين بها، وعاقبة المؤمنين.
تأتي حلقة من قصة
موسى - عليه السلام - تلي مقدمة السورة، حلقة رؤيته للنار وذهابه إليها، وندائه من الملإ الأعلى، وتكليفه الرسالة إلى
فرعون وملئه، ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات الله وهم على يقين من صدقها وعاقبة التكذيب مع اليقين..
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين . وكذلك شأن المشركين في
مكة كان مع آيات القرآن المبين.
وتليها إشارة إلى نعمة الله على
داود وسليمان - عليهما السلام - ثم قصة
سليمان مع النملة، ومع الهدهد،
[ ص: 2625 ] ومع ملكة
سبأ وقومها، وفيها تظهر نعمة الله على
داود وسليمان وقيامهما بشكر هذه النعمة، وهي نعمة العلم والملك والنبوة مع تسخير الجن والطير
لسليمان، وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول، ويبرز بصفة خاصة استقبال ملكة
سبأ وقومها لكتاب
سليمان - وهو عبد من عباد الله - واستقبال
قريش لكتاب الله، هؤلاء يكذبون ويجحدون، وأولئك يؤمنون ويسلمون، والله هو الذي وهب
سليمان ما وهب، وسخر له ما سخر، وهو الذي يملك كل شيء، وهو الذي يعلم كل شيء، وما ملك سليمان وما علمه إلا قطرة من ذلك الفيض الذي لا يغيض.
وتليها قصة
صالح مع قومه
ثمود. ويبرز فيها تآمر المفسدين منهم عليه وعلى أهله، وتبييتهم قتله; ثم مكر الله بالقوم، ونجاة
صالح والمؤمنين معه، وتدمير
ثمود مع المتآمرين:
فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا .. وقد كانت
قريش تتآمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبيت له، كما بيتت
ثمود لصالح وللمؤمنين.
ويختم القصص بقصة
لوط مع قومه، وهمهم بإخراجه من قريتهم هو والمؤمنون معه، بحجة أنهم أناس يتطهرون! وما كان من عاقبتهم بعد إذ هاجر
لوط من بينهم، وتركهم للدمار :
وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين .. ولقد همت
قريش بإخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتآمرت في ذلك قبل هجرته من بين ظهرانيهم بقليل.
فإذا انتهى القصص بدأ التعقيب بقوله:
"قل: الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. آلله خير أما يشركون؟".. ثم أخذ يطوف معهم في مشاهد الكون، وفي أغوار النفس، يريهم يد الصانع المدبر الخالق الرازق، الذي يعلم الغيب وحده، وهم إليه راجعون، ثم عرض عليهم أحد أشراط الساعة وبعض مشاهد القيامة، وما ينتظر المكذبين بالساعة في ذلك اليوم العظيم.
ويختم السورة بإيقاع يناسب موضوعها وجوها:
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء، وأمرت أن أكون من المسلمين. وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل : إنما أنا من المنذرين. وقل : الحمد لله. سيريكم آياته فتعرفونها، وما ربك بغافل عما تعملون ..
والتركيز في هذه السورة على العلم، علم الله المطلق بالظاهر والباطن، وعلمه بالغيب خاصة. وآياته الكونية الت يكشفها للناس، والعلم الذي وهبه
لداود وسليمان، وتعليم
سليمان منطق الطير وتنويهه بهذا التعليم، ومن ثم يجيء في مقدمة السورة:
وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم . ويجيء في التعقيب
قل : لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون. بل ادارك علمهم في الآخرة ..
وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون. وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ويجيء في الختام :
سيريكم آياته فتعرفونها .. ويجيء في قصة
سليمان :
ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا : الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين .. وفي قول
سليمان: يا أيها الناس علمنا منطق الطير .. وفي قول الهدهد:
ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون . وعندما يريد
سليمان استحضار عرش الملكة، لا يقدر على إحضاره في غمضة عين عفريت من الجن، إنما يقدر على هذه:
الذي عنده علم من الكتاب .
وهكذا تبرز صفة العلم في جو السورة تظللها بشتى الظلال في سياقها كله من المطلع إلى الختام، ويمضي سياق اسورة كله في هذا الظل، حسب تتابعه الذي أسلفنا؛ فنأخذ في استعراضها تفصيلا.
[ ص: 2626 ] " طا. سين " .. الأحرف المقطعة للتنبيه على المادة الأولية التي تتألف منها السورة والقرآن كله، وهي متاحة لجميع الناطقين بالعربية؛ وهم يعجزون أن يؤلفوا منها كتابا كهذا القرآن، بعد التحدي والإفحام..
ويلي ذلك التنبيه ذكر القرآن:
تلك آيات القرآن وكتاب مبين ..
والكتاب هو نفسه القرآن. وذكره بهذه الصفة هنا يبدو لنا أنه للموازنة الخفية بين استقبال المشركين للكتاب المنزل عليهم من عند الله واستقبال ملكة
سبأ وقومها للكتاب الذي أرسله إليهم
سليمان، وهو عبد من عباد الله.
ثم يصف القرآن أو يصف الكتاب بأنه :
هدى وبشرى للمؤمنين ..
وهذه أبلغ مما لو قيل: فيه هدى وبشرى للمؤمنين، فالتعبير القرآني على هذا النحو يجعل مادة القرآن وماهيته هدى وبشرى للمؤمنين، والقرآن يمنح المؤمنين هدى في كل فج، وهدى في كل طريق، كما يطلع عليهم بالبشرى في الحياتين الأولى والآخرة.
وفي تخصيص المؤمنين بالهدى والبشرى تكمن حقيقة ضخمة عميقة، إن القرآن ليس كتاب علم نظري أو تطبيقي ينتفع به كل من يقرؤه ويستوعب ما فيه، إنما القرآن كتاب يخاطب القلب، أول ما يخاطب; ويسكب نوره وعطره في القلب المفتوح، الذي يتلقاه بالإيمان واليقين، وكلما كان القلب نديا بالإيمان زاد تذوقه لحلاوة القرآن; وأدرك من معانيه وتوجيهاته ما لا يدركه منه القلب الصلد الجاف; واهتدى بنوره إلى ما لا يهتدي إليه الجاحد الصادف. وانتفع بصحبته ما لا ينتفع القارئ المطموس!
وإن الإنسان ليقرأ الآية أو السورة مرات كثيرة، وهو غافل أو عجول، فلا تنض له بشيء; وفجأة يشرق النور في قلبه، فتفتح له عن عوالم ما كانت تخطر له ببال، وتصنع في حياته صنع المعجزة في تحويلها من منهج إلى منهج، ومن طريق إلى طريق.
وكل النظم والشرائع والآداب التي يتضمنها هذا القرآن، إنما تقوم قبل كل شيء على الإيمان، فالذي لا يؤمن قلبه بالله، ولا يتلقى هذا القرآن على أنه وحي من عند الله وعلى أن ما جاء فيه إنما هو المنهج الذي يريده الله، الذي لا يؤمن هذا الإيمان لا يهتدي بالقرآن كما ينبغي ولا يستبشر بما فيه من بشارات.
إن في القرآن كنوزا ضخمة من الهدى والمعرفة والحركة والتوجيه، والإيمان هو مفتاح هذه الكنوز، ولن تفتح كنوز القرآن إلا بمفتاح الإيمان، والذين آمنوا حق الإيمان حققوا الخوارق بهذا القرآن، فأما حين أصبح القرآن كتابا يترنم المترنمون بآياته، فتصل إلى الآذان، ولا تتعداها إلى القلوب، فإنه لم يصنع شيئا، ولم ينتفع به أحد، لقد ظل كنزا بلا مفتاح!
والسورة تعرض صفة المؤمنين الذين يجدون القرآن هدى وبشرى.. إنهم هم :
الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون ..
يقيمون الصلاة.. فيؤدونها حق أدائها، يقظة قلوبهم لموقفهم بين يدي الله، شاعرة أرواحهم بأنهم في حضرة
[ ص: 2627 ] ذي الجلال والإكرام، مرتفعة مشاعرهم إلى ذلك الأفق الوضيء، مشغولة خواطرهم بنجاء الله ودعائه والتوجه إليه في محضره العظيم.
ويؤتون الزكاة.. فيطهرون نفوسهم من رذيلة الشح; ويستعلون بأرواحهم على فتنة المال; ويصلون إخوانهم في الله ببعض ما رزقهم الله; ويقومون بحق الجماعة المسلمة التي هم فيها أعضاء.
وهم بالآخرة هم يوقنون؛ فإذا حساب الآخرة يشغل بالهم، ويصدهم عن جموح الشهوات، ويغمر أرواحهم بتقوى الله وخشيته والحياء من الوقوف بين يديه موقف العصاة.
هؤلاء المؤمنون الذاكرون الله، القائمون بتكاليفه، المشفقون من حسابه وعقابه، الطامعون في رضائه وثوابه. هؤلاء هم الذين تنفتح قلوبهم للقرآن، فإذا هو هدى وبشرى؛ وإذا هو نور في أرواحهم، ودفعة في دمائهم، وحركة في حياتهم، وإذا هو زادهم الذي به يبلغون; وريهم الذي به يشتفون.
وعند ذكر الآخرة يركز عليها ويؤكد في صورة التهديد والوعيد لمن لا يؤمنون بها، فيسدرون في غيهم، حتى يلاقوا مصيرهم الوخيم :
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون. أولئك الذين لهم سوء العذاب، وهم في الآخرة هم الأخسرون ..
والإيمان بالآخرة هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات، ويضمن القصد والاعتدال في الحياة، والذي لا يعتقد بالآخرة لا يملك أن يحرم نفسه شهوة أو يكبح فيها نزوة، وهو يظن أن الفرصة الوحيدة المتاحة له للمتاع هي فرصة الحياة على هذا الكوكب، وهي قصيرة مهما طالت، وما تكاد تتسع لشيء من مطالب النفوس وأمانيها التي لا تنال!.ثم ما الذي يمسكه حين يملك إرضاء شهواته ونزواته، وتحقيق لذاته ورغباته; وهو لا يحسب حساب وقفه بين يدي الله; ولايتوقع ثوابا ولا عقابا يوم يقوم الأشهاد؟
ومن ثم يصبح كل تحقيق للشهوة واللذة مزينا للنفس التي لا تؤمن بالآخرة، تندفع إليه بلا معوق من تقوى أو حياء، والنفس مطبوعة على أن تحب ما يلذ لها، وأن تجده حسنا جميلا; ما لم تهتد بآيات الله ورسالاته إلى الإيمان بعالم آخر باق بعد هذا العالم الفاني؛ فإذا هي تجد لذتها في أعمال أخرى وأشواق أخرى، تصغر إلى جوارها لذائذ البطون والأجسام!
والله –سبحانه - هو الذي خلق النفس البشرية على هذا النحو; وجعلها مستعدة للاهتداء إن تفتحت لدلائل الهدي، مستعدة للعماء إن طمست منافذ الإدراك فيها؛ ومشيئته نافذة، وفق سنته التي خلق النفس البشرية عليها - في حالتي الاهتداء والعماء، ومن ثم يقول القرآن عن الذين لا يؤمنون بالآخرة:
زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون .. فهم لم يؤمنوا بالآخرة فنفذت سنة الله في أن تصبح أعمالهم وشهواتهم مزينة لهم حسنة عندهم. وهذا هو معنى التزيين في هذا المقام، فهم يعمهون لا يرون ما فيها من شر وسوء، أو فهم حائرون لا يهتدون فيها إلى صواب.
والعاقبة معروفة لمن يزين له الشر والسوء
أولئك الذين لهم سوء العذاب. وهم في الآخرة هم الأخسرون .. سواء كان سوء العذاب لهم في الدنيا أو في الآخرة، فالخسارة المطلقة في الآخرة، محققة جزاء وفاقا على الاندفاع في سوء الأعمال.
وتنتهي مقدمة السورة بإثبات المصدر الإلهي الذي يتنزل منه هذا القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ..
[ ص: 2628 ] ولفظ "تلقى" يلقي ظل الهدية المباشرة السنية من لدن حكيم عليم؛ يصنع كل شيء بحكمة، ويدبر كل أمر بعلم، وتتجلى حكمته وعلمه في هذا القرآن، في منهجه، وتكاليفه، وتوجيهاته، وطريقته، وفي تنزيله في إبانة، وفي توالي أجزائه، وتناسق موضوعاته.
ثم يأخذ في القصص، وهو معرض لحكمة الله وعلمه وتدبيره الخفي اللطيف.