[ ص: 2642 ] فلما رآه مستقرا عنده قال : هذا من فضل ربي، ليبلوني أأشكر أم أكفر؟ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم .
لقد لمست هذه المفاجأة الضخمة قلب
سليمان - عليه السلام - وراعه أن يحقق الله له مطالبه على هذا النحو المعجز واستشعر أن النعمة - على هذا النحو - ابتلاء ضخم مخيف; يحتاج إلى يقظة منه ليجتازه، ويحتاج إلى عون من الله ليتقوى عليه; ويحتاج إلى معرفة النعمة والشعور بفضل المنعم، ليعرف الله منه هذا الشعور فيتولاه. والله غني عن شكر الشاكرين، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، فينال من الله زيادة النعمة، وحسن المعونة على اجتياز الابتلاء؛ ومن كفر فإن الله
غني عن الشكر
كريم يعطي عن كرم لا عن ارتقاب للشكر على العطاء.
وبعد هذه الانتفاضة أمام النعمة والشعور بما وراءها من الابتلاء يمضي
سليمان - عليه السلام - في تهيئة المفاجئات للملكة القادمة عما قليل :
قال : نكروا لها عرشها. ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون .
غيروا معالمه المميزة له، لنعرف إن كانت فراستها وفطنتها تهتدي إليه بعد هذا التنكير؛ أم يلبس عليها الأمر فلا تنفذ إلى معرفته من وراء هذا التغيير.
ولعل هذا كان اختبارا من
سليمان لذكائها وتصرفها، في أثناء مفاجأتها بعرشها، ثم إذا مشهد الملكة ساعة الحضور:
فلما جاءت قيل : أهكذا عرشك؟ قالت : كأنه هو ..
إنها مفاجأة ضخمة لا تخطر للملكة على بال، فأين عرشها في مملكتها، وعليها أقفالها وحراسها، أين هو من
بيت المقدس مقر ملك
سليمان؟ وكيف جيء به؟ ومن ذا الذي جاء به؟
ولكن العرش عرشها من وراء هذا التغيير والتنكير!
ترى تنفي أنه هو بناء على تلك الملابسات؟ أم تراها تقول: إنه هو بناء على ما تراه فيه من أمارات؟ وقد انتهت إلى جواب ذكي أريب:
قالت : كأنه هو لا تنفي ولا تثبت، وتدل على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة.
وهنا فجوة في السياق. فكأنما أخبرت بسر المفاجأة. فقالت: إنها استعدت للتسليم والإسلام من قبل؛ أي منذ اعتزمت القدوم على
سليمان بعد رد الهدية.
وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ..
ثم يتدخل السياق القرآني لبيان ما كان قد منعها قبل ذلك من الإيمان بالله وصدها عن الإسلام عندما جاءها كتاب
سليمان; فقد نشأت في قوم كافرين، فصدها عن عبادة الله عبادتها من دونه من خلقه، وهي الشمس كما جاء في أول القصة :
وصدها ما كانت تعبد من دون الله. إنها كانت من قوم كافرين ..
وكان
سليمان - عليه السلام - قد أعد للملكة مفاجأة أخرى، لم يكشف السياق عنها بعد، كما كشف عن المفاجأة الأولى قبل ذكر حضورها - وهذه طريقة أخرى في الأداء القرآني في القصة غير الطريقة الأولى :
[ ص: 2643 ] قيل لها : ادخلي الصرح. فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها! قال : إنه صرح ممرد من قوارير! قالت : رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ..
لقد كانت المفاجأة قصرا من البلور، أقيمت أرضيته فوق الماء، وظهر كأنه لجة؛ فلما قيل لها: ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة. فكشفت عن ساقيها؟ فلما تمت المفاجأة كشف لها
سليمان عن سرها:
قال: إنه صرح ممرد من قوارير !
ووقفت الملكة مفجوءة مدهوشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر،وتدل على أن
سليمان مسخر له قوى أكبر من طاقة البشر؛ فرجعت إلى الله، وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره، معلنة إسلامها
مع سليمان لا لسليمان. ولكن
لله رب العالمين .
لقد اهتدى قلبها واستنار، فعرفت أن الإسلام لله ليس استسلاما لأحد من خلقه - ولو كان هو
سليمان النبي الملك صاحب هذه المعجزات - إنما الإسلام إسلام لله رب العالمين، ومصاحبة للمؤمنين به والداعين إلى طريقه على سنة المساواة..
وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين .
وسجل السياق القرآني هذه اللفتة وأبرزها، للكشف عن طبيعة الإيمان بالله، والإسلام له، فهي العزة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين، بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في الله، لا غالب منهما ولا مغلوب وهما أخوان في الله، رب العالمين، على قدم المساواة.
ولقد كان كبراء
قريش يستعصون على دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياهم إلى الإسلام. وفي نفوسهم الكبر أن ينقادوا إلى
محمد بن عبد الله، فتكون له الرياسة عليهم والاستعلاء فها هي ذي امرأة في التاريخ تعلمهم أن الإسلام لله يسوي بين الداعي والمدعوين، بين القائد والتابعين، فإنما يسلمون مع رسول الله لله رب العالمين!