قال: طائركم عند الله .
حظكم ومستقبلكم ومصيركم عند الله؛ والله قد سن سننا وأمر الناس بأمور، وبين لهم الطريق المستنير؛ فمن اتبع سنة الله، وسار على هداه، فهناك الخير، بدون حاجة إلى زجر الطير، ومن انحرف عن السنة، وحاد عن السواء، فهناك الشر، بدون حاجة إلى التشاؤم والتطير.
بل أنتم قوم تفتنون ..
تفتنون بنعمة الله، وتختبرون بما يقع لكم من خير ومن شر؛ فاليقظة وتدبر السنن، وتتبع الحوادث والشعور بما وراءها من فتنة وابتلاء هو الكفيل بتحقيق الخير في النهاية؛ لا التشاؤم والتطير ببعض خلق الله من الطير ومن الناس سواء.
وهكذا ترد العقيدة الصحيحة الناس إلى الوضوح والاستقامة في تقدير الأمور؛ وترد قلوبهم إلى اليقظة والتدبر فيما يقع لهم أو حولهم، وتشعرهم أن يد الله وراء هذا كله، وأن ليس شيء مما يقع عبثا أو مصادفة..
وبذلك ترتفع قيمة الحياة وقيمة الناس؛ وبذلك يقضي الإنسان رحلته على هذا الكوكب غير مقطوع الصلة بالكون كله من حوله، وبخالق الكون ومدبره، وبالنواميس التي تدبر هذا الكون وتحفظه بأمر الخالق المدبر الحكيم.
ولكن هذا المنطق المستقيم إنما تستجيب له القلوب التي لم تفسد، ولم تنحرف الانحراف الذي لا رجعة منه؛ وكان من قوم صالح من كبرائهم تسعة نفر لم يبق في قلوبهم موضع للصلاح والإصلاح، فراحوا يأتمرون به، ويدبرون له ولأهله في الظلام..
وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون. قالوا : تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، ثم لنقولن لوليه : ما شهدنا مهلك أهله. وإنا لصادقون ..
هؤلاء الرهط التسعة الذين تمحضت قلوبهم وأعمالهم للفساد وللإفساد، لم يعد بها متسع للصلاح والإصلاح، فضاقت نفوسهم بدعوة
صالح وحجته، وبيتوا فيما بينهم أمرا، ومن العجب أن يتداعوا إلى القسم بالله مع هذا
[ ص: 2646 ] الشر المنكر الذي يبيتونه، وهو قتل
صالح وأهله بياتا، وهو لا يدعوهم إلا لعبادة الله!
وإنه لمن العجب كذلك أن يقولوا:
تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه : ما شهدنا مهلك أهله ولا حضرنا مقتله..
وإنا لصادقون .. فقد قتلوهم في الظلام فلم يشهدوا هلاكهم أي: لم يروه بسبب الظلام! وهو احتيال سطحي وحيلة ساذجة، ولكنهم يطمئنون أنفسهم بها، ويبررون كذبهم الذي اعتزموه للتخلص من أولياء دم
صالح وأهله، نعم من العجب أن يحرص مثل هؤلاء على أن يكونوا صادقين! ولكن النفس الإنسانية مليئة بالانحرافات والالتواءات، وبخاصة حين لا تهتدي بنور الإيمان، الذي يرسم لها الطريق المستقيم.
كذلك دبروا، وكذلك مكروا، ولكن الله كان بالمرصاد يراهم ولا يرونه، ويعلم تدبيرهم ويطلع على مكرهم وهم لا يشعرون :
ومكروا مكرا، ومكرنا مكرا. وهم لا يشعرون ..
وأين مكر من مكر؟ وأين تدبير من تدبير؟ وأين قوة من قوة؟
وكم ذا يخطئ الجبارون وينخدعون بما يملكون من قوة ومن حيلة، ويغفلون عن العين التي ترى ولا تغفل، والقوة التي تملك الأمر كله وتباغتهم من حيث لا يشعرون :
فانظر كيف كان عاقبة مكرهم. أنا دمرناهم وقومهم أجمعين. فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ..
ومن لمحة إلى لمحة إذ التدمير والهلاك، وإذ الدور الخاوية والبيوت الخالية، وقد كانوا منذ لحظة واحدة، في الآية السابقة من السورة، يدبرون ويمكرون، ويحسبون أنهم قادرون على تحقيق ما يمكرون!
وهذه السرعة في عرض هذه الصفحة بعد هذه مقصودة في السياق، لتظهر المباغتة الحاسمة القاضية، مباغتة القدرة التي لا تغلب للمخدوعين بقوتهم ومباغتة التدبير الذي لا يخيب للماكرين المستعزين بمكرهم.
إن في ذلك لآية لقوم يعلمون .. والعلم هو الذي عليه التركيز في السورة وتعقيباتها على القصص والأحداث وبعد مشهد المباغتة يجيء ذكر نجاة المؤمنين الذين يخافون الله ويتقونه..
وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ..
والذي يخاف الله يقيه –سبحانه - من المخاوف فلا يجمع عليه خوفين، كما جاء في حديث قدسي جليل.