ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون وحق عليهم القضاء بسبب ظلمهم في الدنيا، وهم واجمون صامتون! ذلك على حين نطقت الدابة قبيل ذلك. وها هم الناس لا ينطقون! وذلك من بدائع التقابل في التعبير القرآني، وفي آيات الله التي يعبر عنها هذا القرآن.
ونسق العرض في هذه الجولة ذو طابع خاص، هو المزاوجة بين مشاهد الدنيا ومشاهد الآخرة، والانتقال من هذه إلى تلك في اللحظة المناسبة للتأثر والاعتبار.
وهو هنا ينتقل من مشهد المكذبين بآيات الله، المبهوتين في ساحة الحشر إلى مشهد من مشاهد الدنيا، كان جديرا أن يوقظ وجدانهم، ويدعوهم إلى التدبر في نظام الكون وظواهره، ويلقي في روعهم أن هناك إلها يرعاهم، ويهيئ لهم أسباب الحياة والراحة، ويخلق الكون مناسبا لحياتهم لا مقاوما لها ولا حربا عليها ولا معارضا لوجودها أو استمرارها:
ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا؟ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ومشهد الليل الساكن، ومشهد النهار المبصر، خليقان أن يوقظا في الإنسان وجدانا دينيا يجنح إلى الاتصال بالله، الذي يقلب الليل والنهار، وهما آيتان كونيتان لمن استعدت نفسه للإيمان، ولكنهم لا يؤمنون.
ولو لم يكن هناك ليل فكان الدهر كله نهارا لانعدمت الحياة على وجه الأرض; وكذلك لو كان الدهر كله ليلا. لا بل إنه لو كان النهار أو الليل أطول مما هما الآن عشر مرات فقط لحرقت الشمس في النهار كل نبات، ولتجمد في الليل كل نبات. وعندئذ تستحل الحياة. ففي الليل والنهار بحالتهما الموافقة للحياة آيات. ولكنهم لا يؤمنون.
ومن آيتي الليل والنهار في الأرض، وحياتهم الآمنة المكفولة في ظل هذا النظام الكوني الدقيق يعبر بهم في ومضة إلى يوم النفخ في الصور، وما فيه من فزع يشمل السماوات والأرض ومن فيهن من الخلائق إلا من شاء الله. وما فيه من تسيير للجبال الرواسي التي كانت علامة الاستقرار; وما ينتهي إليه هذا اليوم من ثواب بالأمن والخير، ومن عقاب بالفزع والكب في النار:
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين. وترى الجبال تحسبها جامدة، وهي تمر مر السحاب، صنع الله الذي أتقن كل شيء، إنه خبير بما تفعلون. من جاء بالحسنة فله خير منها، وهم من فزع يومئذ آمنون. ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار. هل تجزون إلا ما كنتم تعملون والصور البوق ينفخ فيه. وهذه هي نفخة الفزع الذي يشمل كل من في السماوات ومن في الأرض - إلا من شاء الله أن يأمن ويستقر.. قيل هم الشهداء.. وفيها يصعق كل حي في السماوات والأرض إلا من شاء الله.
ثم تكون نفخة البعث. ثم نفخة المحشر. وفي هذه يحشر الجميع
وكل أتوه داخرين أذلاء مستسلمين.
ويصاحب الفزع الانقلاب الكوني العام الذي تختل فيه الأفلاك، وتضطرب دورتها. ومن مظاهر هذا الاضطراب أن تسير الجبال الراسية، وتمر كأنها السحاب في خفته وسرعته وتناثره. ومشهد الجبال هكذ
[ ص: 2669 ] يتناسق مع ظل الفزع، ويتجلى الفزع فيه; وكأنما الجبال مذعورة مع المذعورين، مفزوعة مع المفزوعين، هائمة مع الهائمين الحائرين المنطلقين بلا وجهة ولا قرار!
صنع الله الذي أتقن كل شيء سبحانه! يتجلى إتقان صنعته في كل شيء في هذا الوجود. فلا فلتة ولا مصادفة، ولا ثغرة ولا نقص، ولا تفاوت ولا نسيان. ويتدبر المتدبر كل آثار الصنعة المعجزة، فلا يعثر على خلة واحدة متروكة بلا تقدير ولا حساب. في الصغير والكبير، والجليل والحقير. فكل شيء بتدبير وتقدير، يدبر الرؤوس التي تتابعه وتتملاه .
إنه خبير بما تفعلون وهذا يوم الحساب عما تفعلون. قدره الله الذي اتقن كل شيء. وجاء به في موعده لا يستقدم ساعة ولا يستأخر; ليؤدي دوره في سنة الخلق عن حكمة وتدبير; وليحقق التناسق بين العمل والجزاء في الحياتين المتصلتين المتكاملتين،
صنع الله الذي أتقن كل شيء. إنه خبير بما تفعلون في هذا اليوم المفزع الرهيب يكون الأمن والطمأنينة من الفزع جزاء الذين أحسنوا في الحياة الدنيا، فوق ما ينالهم من ثواب هو أجزل من حسناتهم وأوفر
من جاء بالحسنة فله خير منها. وهم من فزع يومئذ آمنون والأمن من هذا الفزع هو وحده جزاء. وما بعده فضل من الله ومنة. ولقد خافوا الله في الدنيا فلم يجمع عليهم خوف الدنيا وفزع الآخرة. بل أمنهم يوم يفزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله.
ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار وهو مشهد مفزع. وهم يكبون في النار على وجوههم. ويزيد عليهم التبكيت والتوبيخ!
هل تجزون إلا ما كنتم تعملون؟ فقد تنكبوا الهدى، وأشاحوا عنه بوجوههم; فهم يجزون به كبالهذه الوجوه في النار وقد أعرضت من قبل عن الحق الواضح وضوح الليل والنهار.
وفي النهاية تجيء الإيقاعات الأخيرة: حيث يلخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعوته ومنهجه في الدعوة; ويكلهم إلى مصيرهم الذي يرتضونه لأنفسهم بعد ما مضى من بيان; ويختم بحمد الله كما بدأ، ويدعهم إلى الله يكشف لهم آياته، ويحاسبهم على ما يعملون:
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها، وله كل شيء، وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فقل: إنما أنا من المنذرين. وقل: الحمد لله، سيريكم آياته فتعرفونها. وما ربك بغافل عما تعملون وهم كانوا يدينون بحرمة البلدة الحرام; والبيت الحرام وكانوا يستمدون سيادتهم على
العرب من عقيدة
تحريم البيت; ثم لا يوحدون الله الذي حرمه وأقام حياتهم كلها عليه.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقوم العقيدة كما ينبغي أن تقوم، فيعلن أنه مأمور أن يعبد رب هذه البلدة
[ ص: 2670 ] الذي حرمها، لا شريك له; ويكمل التصور الإسلامي للألوهية الواحدة، فرب هذه البلدة هو رب كل شيء في الوجود
وله كل شيء ويعلن أنه مأمور بأن يكون من المسلمين المسلمين كل ما فيهم له. لا شركة فيهم لسواه. وهم الرعيل الممتد في الزمن المتطاول من الموحدين المستسلمين.
هذا قوام دعوته. أما وسيلة هذه الدعوة فهي تلاوة القرآن:
وأن أتلو القرآن فالقرآن هو كتاب هذه الدعوة ودستورها ووسيلتها كذلك. وقد أمر أن يجاهد به الكفار. وفيه وحده الغناء في جهاد الأرواح والعقول. وفيه ما يأخذ على النفوس أقطارها، وعلى المشاعر طرقها; وفيه ما يزلزل القلوب الجاسية ويهزها هزا لا تبقى معه على قرار. وما شرع القتال بعد ذلك إلا لحماية المؤمنين من الفتنة، وضمان حرية الدعوة بهذا القرآن، والقيام على تنفيذ الشرائع بقوة السلطان. أما الدعوة ذاتها فحسبها كتابها..
وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. ومن ضل فقل: إنما أنا من المنذرين وفي هذا تتمثل فردية التبعة في ميزان الله، فيما يختص بالهدى والضلال. وفي فردية التبعة تتمثل كرامة هذا الإنسان، التي يضمنها الإسلام، فلا يساق سوق القطيع إلى الإيمان. إنما هي تلاوة القرآن، وتركه يعمل عمله في النفوس، وفق منهجه الدقيق العميق، الذي يخاطب الفطرة في أعماقها، وفق ناموسها المتسق مع منهج القرآن.
وقل: الحمد لله مقدمة لما يتحدث عنه من صنع الله:
سيريكم آياته فتعرفونها وصدق الله. ففي كل يوم يري عباده بعض آياته في الأنفس والآفاق. ويكشف لهم عن بعض أسرار هذا الكون الحافل بالأسرار.
وما ربك بغافل عما تعملون وهكذا يلقي إليهم في الختام هذا الإيقاع الأخير، في هذا التعبير الملفوف اللطيف المخيف.. ثم يدعهم يعملون ما يعملون، وفي أنفسهم أثر الإيقاع العميق:
وما ربك بغافل عما تعملون