صفحة جزء
ثم تولى إلى الظل ..

مما يشير إلى أن الأوان كان أوان قيظ وحر، وأن السفرة كانت في ذلك القيظ والحر.

فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ..

إنه يأوي إلى الظل المدي البليل بجسمه، ويأوي إلى الظل العريض الممدود. ظل الله الكريم المنان. بروحه وقلبه: " رب. إني لما أنزلت إلي من خير فقير " . رب إني في الهاجرة. رب إني فقير. رب إني وحيد. رب إني ضعيف. رب إني إلى فضلك ومنك وكرمك فقير محووج.

ونسمع من خلال التعبير رفرفة هذا القلب والتجاءه إلى الحمى الآمن، والركن الركين، والظل الظليل. نسمع المناجاة القريبة والهمس الموحي، والانعطاف الرفيق، والاتصال العميق: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ..

وما نكاد نستغرق مع موسى - عليه السلام - في مشهد المناجاة حتى يعجل السياق بمشهد الفرج، معقبا في التعبير بالفاء، كأنما السماء تسارع فتستجيب للقلب الضارع الغريب.

فجاءته إحداهما تمشي على استحياء. قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ..

يا فرج الله: ويا لقربه ويا لنداه! إنها دعوة الشيخ الكبير استجابة من السماء لدعوة موسى الفقير. دعوة للإيواء والكرامة والجزاء على الإحسان. دعوة تحملها: إحداهما وقد جاءته تمشي على استحياء مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال. على استحياء . في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء. جاءته لتنهي إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله، يحكيه القرآن بقوله: إن أبي يدعوك [ ص: 2687 ] ليجزيك أجر ما سقيت لنا . فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح; لا التلجلج والتعثر والربكة. وذلك كذلك من إيحاء الفطرة النظيفة السليمة المستقيمة. فالفتاة القويمة تستحي بفطرتها عند لقاء الرجال والحديث معهم، ولكنها لثقتها بطهارتها واستقامتها لا تضطرب. الاضطراب الذي يطمع ويغري ويهيج; إنما تتحدث في وضوح بالقدر المطلوب، ولا تزيد.

وينهي السياق هذا المشهد فلا يزيد عليه، ولا يفسح المجال لغير الدعوة من الفتاة، والاستجابة من موسى . ثم إذا مشهد اللقاء بينه وبين الشيخ الكبير. الذي لم ينص على اسمه. وقيل: إنه ابن أخي شعيب النبي المعروف. وإن اسمه يثرون .

فلما جاءه وقص عليه القصص، قال: لا تخف. نجوت من القوم الظالمين ..

فقد كان موسى في حاجة إلى الأمن; كما كان في حاجة إلى الطعام والشراب. ولكن حاجة نفسه إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الزاد. ومن ثم أبرز السياق في مشهد اللقاء قول الشيخ الوقور: لا تخف فجعلها أول لفظ يعقب به على قصصه ليلقي في قلبه الطمأنينة، ويشعره بالأمان. ثم بين وعلل: نجوت من القوم الظالمين فلا سلطان لهم على مدين، ولا يصلون لمن فيها بأذى ولا ضرار.

ثم نسمع في المشهد صوت الأنوثة المستقيمة السليمة:

قالت إحداهما: يا أبت استأجره. إن خير من استأجرت القوي الأمين .

إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم، ومن مزاحمة الرجال على الماء، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال. وهي تتأذى وأختها من هذا كله; وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيت; امرأة عفيفة مستورة لا تحتك بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى. والمرأة العفيفة الروح، النظيفة القلب، السليمة الفطرة، لا تستريح لمزاحمة الرجال، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة.

وها هو ذا شاب غريب طريد وهو في الوقت ذاته قوي أمين. رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما. وهو غريب. والغريب ضعيف مهما اشتد. ورأت من أمانته ما يجعله عفيف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته. فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل. وهو قوي على العمل، أمين على المال. فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه. وهي لا تتلعثم في هذه الإشارة ولا تضطرب، ولا تخشى سوء الظن والتهمة. فهي بريئة النفس، نظيفة الحس; ومن ثم لا تخشى شيئا، ولا تتمم ولا تجمجم وهي تعرض اقتراحها على أبيها.

ولا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى . كرفع الحجر الذي يغطي البئر وكان لا يرفعه - فيما قالوا - إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل. فالبئر لم يكن مغطى، إنما كان الرعاء يسقون فنحاهم وسقى للمرأتين، أو سقى لهما مع الرعاء.

[ ص: 2688 ] ولا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة: امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها.

أو أنه قال لها هذا بعد أن مشي خلفها فرفع الهواء ثوبها عن كعبها.. فهذا كله تكلف لا داعي له، ودفع لريبة لا وجود لها. وموسى - عليه السلام - عفيف النظر نظيف الحس، وهي كذلك، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة. فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع!

واستجاب الشيخ لاقتراح ابنته. ولعله أحس من نفس الفتاة ونفس موسى ثقة متبادلة، وميلا فطريا سليما، صالحا لبناء أسرة. والقوة والأمانة حين تجتمعان في رجل لا شك تهفو إليه طبيعة الفتاة السليمة التي لم تفسد ولم تلوث ولم تنحرف عن فطرة الله. فجمع الرجل بين الغايتين وهو يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ويرعى ماشيته ثماني سنين. فإن زادها إلى عشر فهو تفضل منه لا يلزم به.

التالي السابق


الخدمات العلمية