صفحة جزء
إن لحياة القصور جوا خاصا، وتقاليد خاصة، وظلالا خاصة تلقيها على النفس وتطبعها بها مهما تكن هذه النفس من المعرفة والإدراك والشفافية. والرسالة معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير، والواجد والمحروم، وفيهم النظيف والوسخ، والمهذب والخشن; وفيهم الطيب والخبيث والخير والشرير. وفيهم القوي والضعيف، والصابر والجزوع.. وفيهم وفيهم.. وللفقراء عادات خاصة في أكلهم وشربهم ولبسهم ومشيهم، وطريقة فهمهم للأمور، وطريقة تصورهم للحياة، وطريقة حديثهم وحركتهم، وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم.. وهذه العادات تثقل على نفوس المنعمين ومشاعر الذين تربوا في القصور; ولا يكادون يطيقون رؤيتها فضلا على معاناتها وعلاجها، مهما تكن قلوب هؤلاء الفقراء عامرة بالخير مستعدة للصلاح، لأن مظهرهم وطبيعة [ ص: 2691 ] عاداتهم لا تفسح لهم في قلوب أهل القصور!

وللرسالة تكاليفها من المشقة والتجرد والشظف أحيانا.. وقلوب أهل القصور - مهما تكن مستعدة للتضحية بما اعتادته من الخفض والدعة والمتعة - لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة عند معاناتها في واقع الحياة.

فشاءت القدرة التي تنقل خطى موسى - عليه السلام - أن تخفض مما اعتادته نفسه من تلك الحياة; وأن تزج به في مجتمع الرعاة، وأن تجعله يستشعر النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى، بعد الخوف والمطاردة والمشقة والجوع. وأن ينزع من حسه روح الاشمئزاز من الفقر والفقراء، وروح التأفف من عاداتهم وأخلاقهم وخشونتهم وسذاجتهم; وروح الاستعلاء على جهلهم وفقرهم ورثاثة هيئتهم ومجموعة عاداتهم وتقاليدهم. وأن تلقي به في خضم الحياة كبيرا بعد ما ألقت به في خضم الأمواج صغيرا، ليمرن على تكاليف دعوته قبل أن يتلقاها..

فلما أن استكملت نفس موسى - عليه السلام - تجاربها، وأكملت مرانتها ودربتها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغربة، قادت يد القدرة خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه، ومجال رسالته وعمله، سالكة به الطريق التي سلكها أول مرة وحيدا طريدا خائفا يتلفت. فما هذه الجيئة والذهوب في ذات الطريق؟ إنها التدريب والمرانة والخبرة حتى بشعاب الطريق. الطريق الذي سيقود فيه موسى خطى قومه بأمر ربه، كي يستكمل صفات الرائد وخبرته، حتى لا يعتمد على غيره ولو في زيادة الطريق. فقومه كانوا في حاجة إلى رائد يقودهم في الصغيرة والكبيرة، بعد أن أفسدهم الذل والقسوة والتسخير; حتى فقدوا القدرة على التدبير والتفكير.

وهكذا ندرك كيف صنع موسى على عين الله، وكيف أعدته القدرة لتلقي التكليف. فلنتبع خطى موسى تنقلها يد القدرة الكبرى، في طريقه إلى هذا التكليف.

فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا. قال لأهله: امكثوا إني آنست نارا، لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ..

ترى أي خاطر راود موسى ، فعاد به إلى مصر، بعد انقضاء الأجل، وقد خرج منها خائفا يترقب؟ وأنساه الخطر الذي ينتظره بها، وقد قتل فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملإ من قومه ليقتلوه؟

إنها اليد التي تنقل خطاه كلها، لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة، وإلى الوطن والبيئة، وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا. ليؤدي المهمة التي خلق لها ورعي منذ اللحظة الأولى.

على أية حال ها هو ذا عائد في طريقه، ومعه أهله، والوقت ليل، والجو ظلمة وقد ضل الطريق، والليلة شاتية، كما يبدو من أنسه بالنار التي شاهدها، ليأتي منها بخبر أو جذوة.. هذا هو المشهد الأول في هذه الحلقة.

فأما المشهد الثاني فهو المفاجأة الكبرى:

فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة ..

فها هو ذا يقصد إلى النار التي آنسها، وها هو ذا في شاطئ الوادي إلى جوار جبل الطور، الوادي إلى يمينه، في البقعة المباركة .. المباركة، منذ هذه اللحظة.. ثم هذا هو الكون كله تتجاوب جنباته بالنداء العلوي الآتي لموسى من الشجرة ولعلها كانت الوحيدة في هذا المكان:

[ ص: 2692 ] أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين :

وتلقى موسى النداء المباشر. تلقاه وحيدا في ذلك الوادي العميق، في ذلك الليل الساكن. تلقاه يتجاوب به الكون من حوله، وتمتلئ به السماوات والأرضون. تلقاه لا ندري كيف وبأية جارحة وعن أي طريق. تلقاه ملء الكون من حوله، وملء كيانه كله. تلقاه وأطاق تلقيه لأنه صنع على عين الله حتى تهيأ لهذه اللحظة الكبرى.

وسجل ضمير الوجود ذلك النداء العلوي; وبوركت البقعة التي تجلى عليها ذو الجلال; وتميز الوادي الذي كرم بهذا التجلي، ووقف موسى في أكرم موقف يلقاه إنسان.

واستطرد النداء العلوي يلقي إلى عبده التكليف:

وأن ألق عصاك ..

وألقى موسى عصاه إطاعة لأمر مولاه; ولكن ماذا؟ إنها لم تعد عصاه التي صاحبها طويلا، والتي يعرفها معرفة اليقين. إنها حية تدب في سرعة، وتتحرك في خفة، وتتلوى كصغار الحيات وهي حية كبرى:

فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ..

إنها المفاجأة التي لم يستعد لها; مع الطبيعة الانفعالية، التي تأخذها الوهلة الأولى.. ولى مدبرا ولم يعقب ولم يفكر في العودة إليها ليتبين ماذا بها; وليتأمل هذه العجيبة الضخمة. وهذه هي سمة الانفعالين البارزة تتجلى في موعدها!

ثم يستمع إلى ربه الأعلى:

يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ..

إن الخوف والأمن يتعاقبان سريعا على هذه النفس، ويتعاورانها في مراحل حياتها جميعا. إنه جو هذه الحياة من بدئها إلى نهايتها; وإن هذا الانفعال الدائم لمقصود في تلك النفس، مقدر في هذه الحياة، لأنه الصفحة المقابلة لتبلد بني إسرائيل، ومرودهم على الاستكانة ذلك الأمد الطول. وهو تدبير القدرة وتقديرها العميق الدقيق.

أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ..

وكيف لا يأمن من تنقل يد القدرة خطاه، ومن ترعاه عين الله؟

اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ..

وأطاع موسى الأمر، وأدخل يده في فتحة ثوبه عند صدره ثم أخرجها. فإذا هي المفاجأة الثانية في اللحظة الواحدة. إنها بيضاء لامعة مشعة من غير مرض، وقد عهدها أدماء تضرب إلى السمرة. إنها إشارة إلى إشراق الحق ووضوح الآية ونصاعة الدليل.

وأدركت موسى طبيعته. فإذا هو يرتجف من رهبة الموقف وخوارقه المتتابعة. ومرة أخرى تدركه الرعاية الحانية بتوجيه يرده إلى السكينة. ذلك أن يضم يده على قلبه، فتخفض من دقاته، وتطامن من خفقاته:

التالي السابق


الخدمات العلمية