وربك يخلق ما يشاء ويختار. ما كان لهم الخيرة ..
إنها الحقيقة التي كثيرا ما ينساها الناس، أو ينسون بعض جوانبها. إن الله يخلق ما يشاء; لا يملك أحد أن يقترح عليه شيئا، ولا أن يزيد أو ينقص في خلقه شيئا، ولا أن يعدل أو يبدل في خلقه شيئا، وإنه هو الذي يختار من خلقه ما يشاء ومن يشاء لما يريد من الوظائف والأعمال والتكاليف والمقامات; ولا يملك أحد أن يقترح عليه شخصا ولا حادثا ولا حركة ولا قولا ولا فعلا..
ما كان لهم الخيرة لا في شأن أنفسهم ولا في شأن غيرهم، ومرد الأمر كله إلى الله في الصغير والكبير..
هذه الحقيقة لو استقرت في الأخلاد والضمائر لما سخط الناس شيئا يحل بهم، ولا استخفهم شيء ينالونه بأيديهم، ولا أحزنهم شيء يفوتهم أو يفلت منهم، فليسوا هم الذين يختارون، إنما الله هو الذي يختار.
وليس معنى هذا أن يلغوا عقولهم وإرادتهم ونشاطهم، ولكن معناه أن يتقبلوا ما يقع - بعد أن يبذلوا ما في وسعهم من التفكير والتدبير والاختيار - بالرضا والتسليم والقبول، فإن عليهم ما في وسعهم والأمر بعد ذلك لله.
ولقد كان المشركون يشركون مع الله آلهة مدعاة; والله وحده هو الخالق المختار لا شريك له في خلقه ولا في اختياره..
سبحان الله وتعالى عما يشركون ..
وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ..
فهو مجازيهم بما يعلم من أمرهم، مختار لهم ما هم له أهل، من هدى أو ضلال.
وهو الله لا إله إلا هو .. فلا شريك له في خلق ولا اختيار.
له الحمد في الأولى والآخرة .. على اختياره، وعلى نعمائه، وعلى حكمته وتدبيره، وعلى عدله ورحمته، وهو وحده المختص بالحمد والثناء.
وله الحكم .. يقضي في عباده بقضائه، لا راد له ولا مبدل لحكمه.
وإليه ترجعون .. فيقضي بينكم قضاءه الأخير..
وهكذا يطوقهم بالشعور بقدرة الله وتفرد إرادته في هذا الوجود واطلاعه على سرهم وعلانيتهم فلا تخفى عليه منهم خافية; وإليه مرجعهم فلا تشرد منهم شاردة، فكيف يشركون بالله بعد هذا وهم في قبضته لا يفلتون؟
ثم يجول بهم جولة في مشاهد الكون الذي يعيشون فيه غافلين عن تدبير الله لهم، واختياره لحياتهم ومعاشهم;
[ ص: 2708 ] فيوقظ مشاعرهم لظاهرتين كونيتين عظيمتين، ظاهرتي الليل والنهار، وما وراءهما من أسرار الاختيار والشهادة بوحدانية الخالق المختار:
قل: أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء؟ أفلا تسمعون؟ قل: أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ أفلا تبصرون؟ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون ..
والناس لطول ما اعتادوا من كر الجديدين ينسون جدتهما المتكررة التي لا تبلى، ولا يروعهم مطلع الشمس ولا مغيبها إلا قليلا؛ ولا يهزهم طلوع النهار وإقبال الليل إلا نادرا، ولا يتدبرون ما في تواليهما من رحمة بهم وإنقاذ من البلى والدمار، أو التعطل والبوار، أو الملل والهمود.
والقرآن الكريم يوقظهم من همود الإلف والعادة، ويلفتهم إلى تملي الكون من حولهم ومشاهده العظيمة; وذلك حين يخيل إليهم استمرار الليل أبدا أو النهار أبدا، وحين يخيفهم من عواقب هذا وذاك، وما يشعر الإنسان بقيمة الشيء إلا حين يفقده أو يخاف عليه الفقدان.
قل: أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة. من إله غير الله يأتيكم بضياء؟ أفلا تسمعون؟ ..
والناس يشتاقون إلى الصبح حين يطول بهم الليل قليلا في أيام الشتاء، ويحنون إلى ضياء الشمس حين تتوارى عنهم فترة وراء السحاب! فكيف بهم لو فقدوا الضياء، ولو دام عليهم الليل سرمدا إلى يوم القيامة؟ ذلك على فرض أنهم ظلوا أحياء، وإن الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار، لو لم يطلع عليها النهار!
قل: أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة. من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه؟ أفلا تبصرون؟ ..
والناس يستروحون الظلال حين يطول عليهم الهجير ساعات من النهار؛ ويحنون إلى الليل حين يطول النهار بعض ساعات في الصيف، ويجدون في ظلام الليل وسكونه الملجأ والقرار، والحياة كلها تحتاج إلى فترة الليل لتجدد ما تنفقه من الطاقة في نشاط النهار، فكيف بالناس لو ظل النهار سرمدا إلى يوم القيامة على فرض أنهم ظلوا أحياء، وإن الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار إن دام عليها النهار!
ألا إن كل شيء بقدر، وكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون بتدبير، وكل شيء عنده بمقدار: