صفحة جزء
ويسألونك عن المحيض. قل: هو أذى. فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن. فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله. إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين نساؤكم حرث لكم. فأتوا حرثكم أنى شئتم، وقدموا لأنفسكم، واتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، وبشر المؤمنين ..

وهذه لفتة أخرى إلى تلك العلاقة ترفعها إلى الله; وتسمو بأهدافها عن لذة الجسد حتى في أشد أجزائها علاقة بالجسد.. في المباشرة..

إن المباشرة في تلك العلاقة وسيلة لا غاية. وسيلة لتحقيق هدف أعمق في طبيعة الحياة. هدف النسل وامتداد الحياة، ووصلها كلها بعد ذلك بالله. والمباشرة في المحيض قد تحقق اللذة الحيوانية - مع ما ينشأ عنها من أذى ومن أضرار صحية مؤكدة للرجل والمرأة سواء - ولكنها لا تحقق الهدف الأسمى. فضلا على انصراف الفطرة السليمة النظيفة عنها في تلك الفترة. لأن الفطرة السليمة يحكمها من الداخل ذات القانون الذي يحكم الحياة. فتنصرف بطبعها - وفق هذا القانون - عن المباشرة في حالة ليس من الممكن أن يصح فيها غرس، ولا أن تنبت منها حياة. والمباشرة في الطهر تحقق اللذة الطبيعية، وتحقق معها الغاية الفطرية. ومن ثم جاء ذلك النهي إجابة عن ذلك السؤال: [ ص: 242 ] ويسألونك عن المحيض. قل: هو أذى. فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ..

وليست المسألة بعد ذلك فوضى، ولا وفق الأهواء والانحرافات. إنما هي مقيدة بأمر الله; فهي وظيفة ناشئة عن أمر وتكليف، مقيدة بكيفية وحدود:

فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله .. في منبت الإخصاب دون سواه. فليس الهدف هو مطلق الشهوة، إنما الغرض هو امتداد الحياة. وابتغاء ما كتب الله. فالله يكتب الحلال ويفرضه; والمسلم يبتغي هذا الحلال الذي كتبه له ربه، ولا ينشئ هو نفسه ما يبتغيه. والله يفرض ما يفرض ليطهر عباده، ويحب الذين يتوبون حين يخطئون ويعودون إليه مستغفرين:

إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين . وفي هذا الظل يصور لونا من ألوان العلاقة الزوجية يناسبه ويتسق مع خطوطه:

نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ..

وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك العلاقة في هذا الجانب، وإلى أهدافها واتجاهاتها. نعم! إن هذا الجانب لا يستغرق سائر العلاقات بين الزوج وزوجه. وقد جاء وصفها وذكرها في مواضع أخرى مناسبة للسياق في تلك المواضع. كقوله تعالى: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن .. وقوله: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة .. فكل من هذه التعبيرات يصور جانبا من جوانب تلك العلاقة العميقة الكبيرة في موضعه المناسب. أما مناسبة السياق هنا فيتسق معها التعبير بالحرث. لأنها مناسبة إخصاب وتوالد ونماء. وما دام حرثا فأتوه بالطريقة التي تشاءون. ولكن في موضع الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث:

فأتوا حرثكم أنى شئتم ..

وفي الوقت ذاته تذكروا الغاية والهدف، واتجهوا إلى الله فيه بالعبادة والتقوى; فيكون عملا صالحا تقدمونه لأنفسكم. واستيقنوا من لقاء الله، الذي يجزيكم بما قدمتم:

وقدموا لأنفسكم. واتقوا الله. واعلموا أنكم ملاقوه . ثم يختم الآية بتبشير المؤمنين بالحسنى عند لقاء الله، وفي هذا الذي يقدمونه من الحرث، فكل عمل للمؤمن خير، وهو يتجه فيه إلى الله:

وبشر المؤمنين .

هنا نطلع على سماحة الإسلام، الذي يقبل الإنسان كما هو، بميوله وضروراته; لا يحاول أن يحطم فطرته باسم التسامي والتطهر; ولا يحاول أن يستقذر ضروراته التي لا يد له فيها; إنما هو مكلف إياها في الحقيقة لحساب الحياة وامتدادها ونمائها! إنما يحاول فقط أن يقرر إنسانيته ويرفعها، ويصله بالله وهو يلبي دوافع الجسد. يحاول أن يخلط دوافع الجسد بمشاعر إنسانية أولا، وبمشاعر دينية أخيرا; فيربط بين نزوة الجسد العارضة وغايات الإنسانية الدائمة ورفرفة الوجدان الديني اللطيف; ويمزج بينها جميعا في لحظة واحدة، وحركة واحدة، واتجاه واحد، ذلك المزج القائم في كيان الإنسان ذاته، خليفة الله في أرضه، المستحق لهذه الخلافة بما ركب في طبيعته من قوى وبما أودع في كيانه من طاقات.. وهذا المنهج في معاملة الإنسان هو الذي [ ص: 243 ] يلاحظ الفطرة كلها لأنه من صنع خالق هذه الفطرة. وكل منهج آخر يخالف عنه في قليل أو كثير يصطدم بالفطرة فيخفق، ويشقى الإنسان فردا وجماعة. والله يعلم وأنتم لا تعلمون..

التالي السابق


الخدمات العلمية