ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب. وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين
وهو فيض من العطاء جزيل، يتجلى فيه رضوان الله –سبحانه - على الرجل الذي يتمثل فيه الخلوص لله بكليته، والذي أجمع الطغيان على حرقه بالنار، فكان كل شيء من حوله بردا وسلاما، وعطفا وإنعاما، جزاء وفاقا.
[ ص: 2733 ] ثم تأتي قصة
لوط عقب قصة
إبراهيم، بعد ما هاجر إلى ربه مع
إبراهيم، فنزلا بوادي
الأردن; ثم عاش
لوط وحده في إحدى القبائل على ضفاف
البحر الميت أو
بحيرة لوط كما سميت فيما بعد، وكانت تسكن مدينة
سدوم، وصار
لوط منهم بالصهر والمعيشة.
ثم حدث أن فشا في القوم شذوذ عجيب، يذكر القرآن أنه يقع لأول مرة في تاريخ البشرية، ذلك هو الميل الجنسي المنحرف إلى الذكور بدلا من الإناث اللاتي خلقهن الله للرجال، لتتكون من الجنسين وحدات طبيعية منتجة تكفل امتداد الحياة بالنسل وفق الفطرة المطردة في جميع الأحياء، إذ خلقها الله أزواجا؛ ذكرانا وإناثا، فلم يقع الشذوذ والانحراف إلى الجنس المماثل قبل قوم
لوط هؤلاء:
ولوطا إذ قال لقومه: إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين. أإنكم لتأتون الرجال، وتقطعون السبيل، وتأتون في ناديكم المنكر. فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين. قال: رب انصرني على القوم المفسدين ..
ومن خطاب
لوط لقومه يظهر أن الفساد قد استشرى فيهم بكل ألوانه، فهم يأتون الفاحشة الشاذة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين:
يأتون الرجال، وهي فاحشة شاذة قذرة تدل على انحراف الفطرة وفسادها من أعماقها، فالفطرة قد تفسد بتجاوز حد الاعتدال والطهارة مع المرأة، فتكون هذه جريمة فاحشة، ولكنها داخلة في نطاق الفطرة ومنطقها، فأما ذلك الشذوذ الآخر فهو انخلاع من فطرة الأحياء جميعا؛ وفساد في التركيب النفسي والتركيب العضوي سواء. فقد جعل الله لذة المباشرة الجنسية بين الزوجين متناسقة مع خط الحياة الأكبر، وامتداده بالنسل الذي ينشأ عن هذه المباشرة، وجهز كيان كل من الزوجين بالاستعداد للالتذاذ بهذه المباشرة، نفسيا وعضويا، وفقا لذلك التناسق، فأما المباشرة الشاذة فلا هدف لها، ولم يجهز الله الفطرة بالتذاذها تبعا لانعدام الهدف منها.فإذا وجد فيها أحد لذة فمعنى هذا أنه انسلخ نهائيا من خط الفطرة، وعاد مسخا لا يرتبط بخط الحياة!
ويقطعون السبيل، فينهبون المال، ويروعون المارة، ويعتدون على الرجال بالفاحشة كرها، وهي خطوة أبعد في الفاحشة الأولى، إلى جانب السلب والنهب والإفساد في الأرض..
ويأتون في ناديهم المنكر، يأتونه جهارا وفي شكل جماعي متفق عليه، لا يخجل بعضهم من بعض، وهي درجة أبعد في الفحش، وفساد الفطرة، والتبجح بالرذيلة إلى حد لا يرجى معه صلاح!
والقصة هنا مختصرة، وظاهر أن
لوطا أمرهم في أول الأمر ونهاهم بالحسنى وأنهم أصروا على ما هم فيه، فخوفهم عذاب الله، وجبههم بشناعة جرائمهم الكبرى:
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ..
فهو التبجح في وجه الإنذار، والتحدي المصحوب بالتكذيب، والشرود الذي لا تنتظر منه أوبة، وقد أعذر إليهم رسولهم فلم يبق إلا أن يتوجه إلى ربه طالبا نصره الأخير:
قال: رب انصرني على القوم المفسدين ..
وهنا يسدل الستار على دعاء لوط، ليرفع عن الاستجابة، وفي الطريق يلم الملائكة المكلفون بالتنفيذ بإبراهيم، يبشرونه بولد صالح من زوجه التي كانت من قبل عقيما:
ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا: إنا مهلكو أهل هذه القرية، إن أهلها كانوا ظالمين. قال: إن [ ص: 2734 ] فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ..
وهذا المشهد؛ مشهد الملائكة مع
إبراهيم؛ مختصر في هذا الموضع لأنه ليس مقصودا; قد سبق في قصة
إبراهيم أن الله وهب له
إسحاق ويعقوب; وولادة
إسحاق هي موضوع البشرى، ومن ثم لم يفصل قصتها هنا لأن الغرض هو إتمام قصة
لوط، فذكر أن مرور الملائكة
بإبراهيم كان للبشرى، ثم أخبروه بمهمتهم الأولى:
إنا مهلكو أهل هذه القرية. إن أهلها كانوا ظالمين ..
وأدركت
إبراهيم رقته ورأفته، فراح يذكر الملائكة أن في هذه القرية
لوطا; وهو صالح وليس بظالم!
وأجابه الرسل بما يطمئنه من ناحيته، ويكشف له عن معرفتهم بمهمتهم وأنهم أولى بهذه المعرفة!
قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ..
وقد كان هواها مع القوم، تقر جرائمهم وانحرافهم، وهو أمر عجيب.
وينتقل إلى مشهد ثالث، مشهد
لوط وقد جاء إليه الملائكة في هيئة فتية صباح ملاح; وهو يعلم شنشنة قومه، وما ينتظر ضيوفه هؤلاء منهم من سوء لا يملك له دفعا؛ فضاق صدره وساءه حضورهم إليه، في هذا الظرف العصيب:
ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا ..
ويختصر هنا هجوم القوم على الضيوف، ومحاورة
لوط لهم، وهم في سعار الشذوذ المريض؛ ويمضي إلى النهاية الأخيرة، إذ يكشف له الرسل عن حقيقتهم، ويخبرونه بمهمتهم، وهو في هذا الكرب وذلك الضيق:
وقالوا: لا تخف ولا تحزن. إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين. إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ..
وترسم هذه الآية مشهد التدمير الذي أصاب القرية وأهلها جميعا - إلا
لوطا وأهله المؤمنين - وقد كان هذا التدمير بأمطار وأحجار ملوثة بالطين، ويغلب أنها ظاهرة بركانية قلبت المدينة وابتلعتها; وأمطرت عليها هذا المطر الذي يصاحب البراكين.
وما تزال آثار هذا التدمير باقية تحدث عن آيات الله لمن يعقلها ويتدبرها من القرون:
ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون ..
وكان هذا هو المصير الطبيعي لهذه الشجرة الخبيثة التي فسدت وأنتنت، فلم تعد صالحة للإثمار ولا للحياة.
ولم تعد تصلح إلا للاجتثاث والتحطم.
ثم إشارة إلى قصة
شعيب ومدين: وإلى مدين أخاهم شعيبا، فقال: يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. فكذبوه فأخذتهم الرجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين ..
وهي إشارة تبين وحدة الدعوة، ولباب العقيدة:
اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر .. وعبادة الله الواحد هي قاعدة العقيدة، ورجاء اليوم الآخر كفيل بتحويلهم عما كانوا يرجونه في هذه الحياة الدنيا من الكسب المادي الحرام بالتطفيف في الكيل والميزان، وغصب المارين بطريقهم للتجارة، وبخس الناس أشيءهم، والإفساد في الأرض، والاستطالة على الخلق.