[ ص: 2735 ] وفي اختصار يذكر انتهاء أمرهم إلى تكذيب رسولهم; وأخذهم بالهلاك والتدمير، على سنة الله في أخذ المكذبين.
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ..
وقد تقدم بيان الرجفة التي زلزلت عليهم بلادهم ورجتها بعد الصيحة المدوية التي أسقطت قلوبهم وتركتهم مصعوقين حيث كانوا في دارهم لا يتحركون؛ فأصبحوا فيها جاثمين، جزاء ما كانوا يروعون الناس وهم يخرجون عليهم مغيرين صائحين!
وإشارة كذلك إلى مصرع عاد وثمود:
وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم، فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ..
وعاد كانت تسكن
بالأحقاف في
جنوب الجزيرة بالقرب من
حضرموت، وثمود كانت تسكن
بالحجر في
شمال الجزيرة بالقرب من
وادي القرى، وقد هلكت
عاد بريح صرصر عاتية، وهلكت
ثمود بالصيحة المزلزلة.
وبقيت مساكنها معروفة
للعرب يمرون عليها في رحلتي الشتاء والصيف، ويشهدون آثار التدمير، بعد العز والتمكين.
وهذه الإشارة المجملة تكشف عن سر ضلالهم، وهو سر ضلال الآخرين.
وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ..
فقد كانت لهم عقول، وكانت أمامهم دلائل الهدى; ولكن الشيطان استهواهم وزين لهم أعمالهم، وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة، وهي غرورهم بأنفسهم، وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال، وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع.
فصدهم عن السبيل سبيل الهدى الواحد المؤدي إلى الإيمان، وضيع عليهم الفرصة
وكانوا مستبصرين يملكون التبصر، وفيهم مدارك ولهم عقول.
وإشارة إلى
قارون وفرعون وهامان. ولقد جاءهم موسى بالبينات، فاستكبروا في الأرض، وما كانوا سابقين ..
وقارون كان من قوم
موسى فبغى عليهم بثروته وعلمه، ولم يستمع نصح الناصحين بالإحسان والاعتدال والتواضع وعدم البغي والفساد،
وفرعون كان طاغية غشوما، يرتكب أبشع الجرائم وأغلظها، ويسخر الناس ويجعلهم شيعا، ويقتل ذكور بني إسرائيل ويستحيي نساءهم عتوا وظلما. وهامان كان وزيره المدبر لمكائده، المعين له على ظلمه وبطشه.
ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض ..
فلم يعصمهم الثراء والقوة والدهاء، لم تعصمهم من أخذ الله، ولم تجعلهم ناجين ولا مفلتين منعذاب الله، بل أدركهم وأخذهم كما سيجيء.
وما كانوا سابقين ..
هؤلاء الذين ملكوا القوة والمال وأسباب البقاء والغلبة، قد أخذهم الله جميعا، بعد ما فتنوا الناس وآذوهم طويلا:
[ ص: 2736 ] فكلا أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا. وما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
فعاد أخذهم حاصب وهو الريح الصرصر التي تتطاير معها حصباء الأرض فتضربهم وتقتلهم،
وثمود أخذتهم الصيحة،
وقارون خسف به وبداره الأرض،
وفرعون وهامان غرقا في اليم وذهبوا جميعا مأخوذين بظلمهم.
وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ..
والآن، وعلى مصارع العتاة البغاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون، والآن؛ وبعد الحديث في مطالع السورة عن الفتنة والابتلاء والإغراء، الآن يضرب المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال، إن هنالك قوة واحدة هي قوة الله، وما عداها من قوة الخلق فهو هزيل واهن، من تعلق به أو احتمى، فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية، فهي وما تحتمي به سواء:
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون. إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم. وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون ..
إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود، الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحيانا، فيسوء تقديرهم لجميع القيم، ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات، وتختل في أيديهم جميع الموازين، ولا يعرفون إلى أين يتوجهون، ماذا يأخذون وماذا يدعون؟.
وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها!
وتخدعهم قوة المال، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة، ويتقدمون إليها في رغب وفي رهب ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب كما يحسبون!
وتخدعهم قوة العلم يحسبونها أصل القوة وأصل المال، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدمون إليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب!.
وتخدعهم هذه القوى الظاهرة، تخدعهم في أيدي الأفراد وفي أيدي الجماعات وفي أيدي الدول، فيدورون حولها،ويتهافتون عليها، كما يدور الفراش على المصباح، وكما يتهافت الفراش على النار!.
وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة، وتملكها، وتمنحها، وتوجهها، وتسخرها كما تريد، حيثما تريد.
وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى سواء كانت في أيدي الأفراد، أو الجماعات، أو الدول، كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت، حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن.
وليس هنالك إلا حماية الله، وإلا حماه، وإلا ركنه القوي الركين.
هذه الحقيقة لضخمة هي التي عني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة، فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها; وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض ودكت بها المعاقل والحصون.
[ ص: 2737 ] لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس، وعمرت كل قلب، واختلطت بالدم، وجرت معه في العروق، ولم تعد كلمة تقال باللسان، ولا قضية تحتاج إلى جدل، بل بديهة مستقرة في النفس، لا يجول غيرها في حس ولا خيال.
قوة الله وحدها هي القوة، وولاية الله وحدها هي الولاية، وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل; مهما علا واستطال، ومهما تجبر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل.
إنها العنكبوت: وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت:
وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون .
وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء، لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة، هذه تضر بهم وتحاول أن تسحقهم، وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم، وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة حين تصح العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير.