ثم يمضي في الحديث عن أولئك المشركين، عن استعجالهم بالعذاب، وجهنم منهم قرب:
ويستعجلونك بالعذاب، ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب، وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون. يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ويقول: ذوقوا ما كنتم تعملون ..
ولقد كان المشركون يسمعون النذير، ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين; فيستعجلون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعذاب على سبيل التحدي، وكثيرا ما يكون إمهال الله استدراجا للظالمين ليزدادوا عتوا وفسادا، أو امتحانا للمؤمنين ليزدادوا إيمانا وثباتا; وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات، أو استبقاء لمن يعلم - سبحانه - أن فيهم خيرا من أولئك المنحرفين حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى، أو استخراجا لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه ولو كان آباؤهم من الضالين.. أو لغير
[ ص: 2748 ] هذا وذاك من تدبير الله المستور..
ولكن المشركين لم يكونوا يدركون شيئا من حكمة الله وتدبيره، فكانوا يستعجلون بالعذاب على سبيل التحدي..
ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب .. وهنا يوعدهم الله بمجيء العذاب الذي يستعجلونه، مجيئه في حينه، ولكن حيث لا ينتظرونه ولا يتوقعونه، وحيث يبهتون له ويفاجأون به:
وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ..
ولقد جاءهم هذا العذاب من بعد في
بدر، وصدق الله، ورأوا بأعينهم كيف يحق وعد الله، ولم يأخذهم الله بالهلاك الكامل كأخذ المكذبين قبلهم; كما أنه لم يستجب لهم في إظهار خارقة مادية كي لا يحق عليهم وعده بهلاك من يكذبون بعد الخارقة المادية، لأنه قدر للكثيرين منهم أن يؤمنوا فيما بعد، وأن يكونوا من خيرة جند الإسلام; وأخرج من ظهورهم من حملوا الراية جيلا بعد جيل، إلى أمد طويل، وكان ذلك كله وفق تدبير الله الذي لا يعلمه إلا الله.
وبعد الوعيد بعذاب الدنيا الذي يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون، جعل يكرر استنكاره لاستعجالهم بالعذاب، وجهنم لهم بالمرصاد:
يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ..
وعلى طريقة القرآن في التصوير، وفي استحضار المستقبل كأنه مشهود، صور لهم جهنم محيطة بالكافرين، وذلك بالقياس إليهم مستقبل مستور; ولكنه بالقياس إلى الواقع المكشوف لعلم الله حاضر مشهود، وتصويره على حقيقته المستورة يوقع في الحس رهبة، ويزيد استعجالهم بالعذاب نكارة، فأنى يستعجل من تحيط به جهنم، وتهم أن تطبق عليه وهو غافل مخدوع؟!
ويرسم لهم صورتهم في جهنم هذه المحيطة بهم; وهم يستعجلون بالعذاب:
يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ويقول: ذوقوا ما كنتم تعملون ..
وهو مشهد مفزع في ذاته، يصاحبه التقريع المخزي والتأنيب المرير:
ذوقوا ما كنتم تعملون .. فهذه نهاية الاستعجال بالعذاب; والاستخفاف بالنذير.
ويدع الجاحدين المكذبين المستهترين في مشهد العذاب يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ليلتفت إلى المؤمنين، الذين يفتنهم أولئك المكذبون عن دينهم، ويمنعونهم من عبادة ربهم، يلتفت إليهم يدعوهم إلى الفرار بدينهم، والنجاة بعقيدتهم، في نداء حبيب وفي رعاية سابغة، وفي أسلوب يمس كل أوتار القلوب:
يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة، فإياي فاعبدون. كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، نعم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون. وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم، وهو السميع العليم ..
إن خالق هذه القلوب، الخبير بمداخلها، العليم بخفاياها، العارف بما يهجس فيها، وما يستكن في حناياها، إن خالق هذه القلوب ليناديها هذا النداء الحبيب: يا عبادي الذين آمنو: يناديها هكذا وهو يدعوها إلى الهجرة بدينها، لتحس منذ اللحظة الأولى بحقيقتها، بنسبتها إلى ربها وإضافتها إلى مولاها:
يا عبادي ..
هذه هي اللمسة الأولى، واللمسة الثانية:
إن أرضي واسعة
..
[ ص: 2749 ] أنتم عبادي. وهذه أرضي. وهي واسعة، فسيحة تسعكم، فما الذي يمسككم في مقامكم الضيق، الذي تفتنون فيه عن دينكم، ولا تملكون أن تعبدوا الله مولاكم؟ غادروا هذا الضيق يا عبادي إلى أرضي الواسعة، ناجين بدينكم، أحرارا في عبادتكم
فإياي فاعبدون .
إن هاجس الأسى لمفارقة الوطن هو الهاجس الأول الذي يتحرك في النفس التي تدعى للهجرة، ومن هنا يمس قلوبهم بهاتين اللمستين: بالنداء الحبيب القريب:
يا عبادي وبالسعة في الأرض:
إن أرضي واسعة وما دامت كلها أرض الله، فأحب بقعة منها إذن هي التي يجدون فيها السعة لعبادة الله وحده دون سواه.
ثم يمضي يتتبع هواجس القلوب وخواطرها؛ فإذا الخاطر الثاني هو الخوف من خطر الهجرة، خطر الموت الكامن في محاولة الخروج - وقد كان المشركون يمسكون بالمؤمنين في مكة، ولا يسمحون لهم بالهجرة عندما أحسوا بخطرهم بعد خروج المهاجرين الأولين - ثم خطر الطريق لو قدر لهم أن يخرجوا من
مكة، ومن هنا تجيء اللمسة الثانية:
كل نفس ذائقة الموت. ثم إلينا ترجعون ..
فالموت حتم في كل مكان، فلا داعي أن يحسبوا حسابه، وهم لا يعلمون أسبابه، وإلى الله المرجع والمآب، فهم مهاجرون إليه، في أرضه الواسعة، وهم عائدون إليه في نهاية المطاف، وهم عباده الذين يؤويهم إليه في الدنيا والآخرة، فمن ذا يساوره الخوف، أو يهجس في ضميره القلق، بعد هذه اللمسات؟
ومع هذا فإنه لا يدعهم إلى هذا الإيواء وحده; بل يكشف عما أعده لهم هناك، وإنهم ليفارقون وطنا فلهم في الأرض عنه سعة، ويفارقون بيوتا فلهم في الجنة منها عوض، عوض من نوعها وأعظم منها: