والآن وقد انتهى السياق إلى الطلاق، فإنه يأخذ في تفصيل أحكام الطلاق; وما يتبعه من العدة والفدية والنفقة والمتعة.. إلى آخر الآثار المترتبة على الطلاق..
ويبدأ بحكم
العدة والرجعة :
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن - إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر - وبعولتهن أحق بردهن في ذلك - إن أرادوا إصلاحا - ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة، والله عزيز حكيم ..
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - أي: ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف.
يتربصن بأنفسهن.. لقد وقفت أمام هذا التعبير اللطيف التصوير لحالة نفسية دقيقة.. إن المعنى الذهني المقصود هو أن ينتظرن دون زواج جديد حتى تنقضي ثلاث حيضات، أو حتى يطهرن منها.. ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا أخرى بجانب ذلك المعنى الذهني.. إنه يلقي ظلال الرغبة الدافعة إلى استئناف حياة زوجية جديدة. رغبة الأنفس التي يدعوهن إلى التربص بها، والإمساك بزمامها، مع التحفز، والتوفز. الذي يصاحب صورة التربص. وهي حالة طبيعية، تدفع إليها رغبة المرأة في أن تثبت لنفسها ولغيرها أن إخفاقها في حياة الزوجية لم يكن لعجز فيها أو نقص، وأنها قادرة على أن تجتذب رجلا آخر، وأن تنشئ حياة جديدة..
هذا الدافع لا يوجد بطبيعته في نفس الرجل، لأنه هو الذي طلق بينما يوجد بعنف في نفس المرأة لأنها هي
[ ص: 246 ] التي وقع عليها الطلاق.. وهكذا يصور القرآن الحالة النفسية من خلال التعبير; كما يلحظ هذه الحالة ويحسب لها حسابا..
يتربصن بأنفسهن هذه الفترة كي يتبين براءة أرحامهن من آثار الزوجية السابقة; قبل أن يصرن إلى زيجات جديدة:
ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر .
لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من حمل أو من حيض.. ويلمس قلوبهن بذكر الله الذي يخلق ما في أرحامهن، ويستجيش كذلك شعور الإيمان بالله واليوم الآخر. فشرط هذا الإيمان ألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن.. وذكر اليوم الآخر بصفة خاصة له وزنه هنا. فهناك الجزاء.. هناك العوض عما قد يفوت بالتربص، وهناك العقاب لو كتمن ما خلق الله في أرحامهن، وهو يعلمه لأنه هو الذي خلقه، فلا يخفى عليه شيء منه.. فلا يجوز كتمانه عليه - سبحانه - تحت تأثير أي رغبة أو هوى أو غرض من شتى الأغراض التي تعرض لنفوسهن.
هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى، فإنه لا بد من فترة معقولة يختبر فيها الزوجان عواطفهما بعد الفرقة. فقد يكون في قلوبهما رمق من ود يستعاد، وعواطف تستجاش، ومعان غلبت عليها نزوة أو غلطة أو كبرياء! فإذا سكن الغضب، وهدأت الشرة، واطمأنت النفس، استصغرت تلك الأسباب التي دفعت إلى الفراق، وبرزت معان أخرى واعتبارات جديدة، وعاودها الحنين إلى استئناف الحياة، أو عاودها التجمل رعاية لواجب من الواجبات. والطلاق أبغض الحلال إلى الله ، وهو عملية بتر لا يلجأ إليها إلا حين يخيب كل علاج.. "وفي مواضع أخرى من القرآن تذكر المحاولات التي ينبغي أن تسبق إيقاع الطلاق. كما أن إيقاعه الطلاق ينبغي أن يكون في فترة طهر لم يقع فيها وطء. وهذا من شأنه أن يوجد مهلة بين اعتزام الطلاق وإيقاعه في أغلب الحالات. إذ ينتظر الزوج حتى تجيء فترة الطهر ثم يوقع الطلاق.. إلى آخر تلك المحاولات" ..
والطلقة الأولى تجربة يعلم منها الزوجان حقيقة مشاعرهما. فإذا اتضح لهما في أثناء العدة أن استئناف الحياة مستطاع، فالطريق مفتوح:
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ..
في ذلك.. أي في فترة الانتظار والتربص وهي فترة العدة.. إن أرادوا إصلاحا بهذا الرد; ولم يكن القصد هو إعنات الزوجة، وإعادة تقييدها في حياة محفوفة بالأشواك، انتقاما منها، أو استكبارا واستنكافا أن تنكح زوجا آخر.
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ..
وللمطلقات من الحقوق في هذه الحالة مثل الذي عليهن من الواجبات، فهن مكلفات أن يتربصن وألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، وأزواجهن مكلفون بأن تكون نيتهم في الرجعة طيبة لا ضرر فيها عليهن ولا ضرار. وذلك إلى ما سيأتي من أمر النفقة في مقابل الاحتباس للعدة.
وللرجال عليهن درجة ..
أحسب أنها مقيدة في هذا السياق بحق الرجال في ردهن إلى عصمتهم في فترة العدة . وقد جعل هذا الحق في يد الرجل لأنه هو الذي طلق; وليس من المعقول أن يطلق هو فيعطي حق المراجعة لها هي! فتذهب إليه.
[ ص: 247 ] وترده إلى عصمتها! فهو حق تفرضه طبيعة الموقف. وهي درجة مقيدة في هذا الموضع، وليست مطلقة الدلالة كما يفهمها الكثيرون، ويستشهدون بها في غير موضعها .
ثم يجيء التعقيب:
والله عزيز حكيم .
مشعرا بقوة الله الذي يفرض هذه الأحكام وحكمته في فرضها على الناس. وفيه ما يرد القلوب عن الزيغ والانحراف تحت شتى المؤثرات والملابسات.