وبمناسبة هول البحر وخطره الذي يعري النفوس من غرور القوة والعلم والقدرة، ويسقط عنها هذه الحواجز الباطلة، ويقفها وجها لوجه أمام منطق الفطرة.. بمناسبة هذا الهول يذكرهم بالهول الأكبر،
[ ص: 2798 ] الذي يبدو هول البحر في ظله صغيرا هزيلا. هول اليوم الذي يقطع أواصر الرحم والنسب، ويشغل الوالد عن الولد، ويحول بين المولود والوالد، وتقف كل نفس فيه وحيدة فريدة، مجردة من كل عون ومن كل سند، موحشة من كل قربى ومن كل وشيجة:
يا أيها الناس اتقوا ربكم، واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور ..
إن الهول هنا هول نفسي، يقاس بمداه في المشاعر والقلوب . وما تتقطع أواصر القربى والدم، ووشائج الرحم والنسب بين الوالد ومن ولد، وبين المولود والوالد. وما يستقل كل بشأنه، فلا يجزى أحد عن أحد، ولا ينفع أحدا إلا عمله وكسبه. ما يكون هذا كله إلا لهول لا نظير له في مألوف الناس.. فالدعوة هنا إلى تقوى الله تجيء في موضعها الذي فيه تستجاب. وقضية الآخرة تعرض في ظلال هذا الهول الغامر فتسمع لها القلوب.
إن وعد الله حق .. فلا يخلف ولا يتخلف، ولا مفر من مواجهة هذا الهول العصيب. ولا مفر من الحساب الدقيق والجزاء العادل، الذي لا يغني فيه والد عن ولد ولا مولود عن والد.
فلا تغرنكم الحياة الدنيا .. وما فيها من متاع ولهو ومشغلة، فهي مهلة محدودة وهي ابتلاء واستحقاق للجزاء.
ولا يغرنكم بالله الغرور .. من متاع يلهي، أو شغل ينسي، أو شيطان يوسوس في الصدور. والشياطين كثير. الغرور بالمال شيطان. والغرور بالعلم شيطان. والغرور بالعمر شيطان. والغرور بالقوة شيطان. والغرور بالسلطان شيطان. ودفعة الهوى شيطان. ونزوة الشهوة شيطان. وتقوى الله وتصور الآخرة هما العاصم من كل غرور!
وفي ختام الجولة الربعة وختام السورة، وفي ظل هذا المشهد المرهوب يجيء الإيقاع الأخير في السورة قويا عميقا مرهوبا، يصور علم الله الشامل، وقصور الإنسان المحجوب عن الغيوب. ويقرر القضية التي تعالجها السورة بكل أجزائها، ويخرج هذا كله في مشهد من مشاهد التصوير القرآني العجيب.
إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير ..
والله - سبحانه - قد جعل الساعة غيبا لا يعلمه سواه; ليبقى الناس على حذر دائم، وتوقع دائم، ومحاولة دائمة أن يقدموا لها، وهم لا يعلمون متى تأتي، فقد تأتيهم بغتة في أية لحظة، ولا مجال للتأجيل في اتخاذ الزاد، وكنز الرصيد.
والله ينزل الغيث وفق حكمته، بالقدر الذي يريده، وقد يعرف الناس بالتجارب والمقاييس قرب نزوله، ولكنهم لا يقدرون على خلق الأسباب التي تنشئه. والنص يقرر أن الله هو الذي ينزل الغيث، لأنه سبحانه
[ ص: 2799 ] هو المنشئ للأسباب الكونية التي تكونه والتي تنظمه. فاختصاص الله في الغيث هو اختصاص القدرة. كما هو ظاهر من النص. وقد وهم الذين عدوه في الغيبيات المختصة بعلم الله. وإن كان علم الله وحده هو العلم في كل أمر وشأن. فهو وحده العلم الصحيح الكامل الشامل الدائم الذي لا يلحق به زيادة ولا نقصان.
ويعلم ما في الأرحام .. اختصاص بالعلم كالاختصاص في أمر الساعة فهو سبحانه الذي يعلم وحده. علم يقين. ماذا في الأرحام في كل لحظة وفي كل طور. من فيض وغيض.ومن حمل، حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم. ونوع هذا الحمل ذكرا أم أنثى، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئا في اللحظة الأولى لاتحاد الخلية والبويضة. وملامح الجنين وخواصه وحالته واستعداداته.. فكل أولئك مما يختص به علم الله تعالى.
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا .. ماذا تكسب من خير وشر، ومن نفع وضر، ومن يسر وعسر، ومن صحة ومرض، ومن طاعة ومعصية. فالكسب أعم من الربح المالي وما في معناه، وهو كل ما تصيبه النفس في الغداة. وهو غيب مغلق، عليه الأستار. والنفس الإنسانية تقف أمام سدف الغيب، لا تملك أن ترى شيئا مما وراء الستار.
وكذلك:
وما تدري نفس بأي أرض تموت فذلك أمر وراء الستر المسبل السميك الذي لا تنفذ منه الأسماع والأبصار.
وإن النفس البشرية لتقف أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود، وعجزها الواضح، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدعاة. وتعرف أمام ستر الغيب المسدل أن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلا، وأن وراء الستر الكثير مما لم يعلمه الناس. ولو علموا كل شيء آخر فسيظلون واقفين أمام ذلك الستر لا يدرون ماذا يكون غدا! بل ماذا يكون اللحظة التالية. وعندئذ تطامن النفس البشرية من كبريائها وتخشع لله.
والسياق القرآني يعرض هذه المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري في رقعة فسيحة هائلة..
رقعة فسيحة في الزمان والمكان، وفي الحاضر الواقع، والمستقبل المنظور، والغيب السحيق. وفي خواطر النفس، ووثبات الخيال: ما بين الساعة البعيدة المدى، والغيث البعيد المصدر، وما في الأرحام الخافي عن العيان. والكسب في الغد، وهو قريب في الزمان ومغيب في المجهول.. وموضع الموت والدفن، وهو مبعد في الظنون.
إنها رقعة فسيحة الآماد والأرجاء. ولكن اللمسات التصويرية العريضة بعد أن تتناولها من أقطارها تدق في أطرافها، وتجمع هذه الأطراف كلها عند نقطة الغيب المجهول، ونقف بها جميعا أمام كوة صغيرة مغلقة، لو انفتح منها سم الخياط لاستوى القريب خلفها بالبعيد، ولا نكشف القاصي منها والدان .. ولكنها تظل مغلقة في وجه الإنسان، لأنها فوق مقدور الإنسان، ووراء علم الإنسان. تبقى خالصة لله لا يعلمها غيره، إلا بإذن منه وإلا بمقدار.
إن الله عليم خبير وليس غيره بالعليم ولا بالخبير..
[ ص: 2800 ] وهكذا تنتهي السورة، كما لو كانت رحلة هائلة بعيدة الآماد والآفاق والأغوار والأبعاد. ويؤوب القلب من هذه الرحلة المديدة البعيدة، الشاملة الشاسعة، وئيد الخطى لكثرة ما طوف، ولجسامة ما يحمل، ولطول ما تدبر وما تفكر، في تلك العوالم والمشاهد والحيوات!
وهي بعد سورة لا تتجاوز الأربع والثلاثين آية. فتبارك الله خالق القلوب، ومنزل هذا القرآن شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين..