صفحة جزء
ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله. وصدق الله ورسوله. وما زادهم إلا إيمانا وتسليما .

لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة; وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة; وكان الفزع الذي لقوه من العنف، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا، كما قال عنهم أصدق القائلين:

هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ..

لقد كانوا ناسا من البشر. وللبشر طاقة. لا يكلفهم الله ما فوقها. وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية; وبشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق.. على الرغم من هذا كله، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم.

ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحس حالة أصحابه، ويرى نفوسهم من داخلها، فيقول: " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع. يشرط له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجعة. أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة " .. ومع هذا الشرط بالرجعة، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة، فإن أحدا لا يلبي النداء. فإذا عين بالاسم حذيفة قال: فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني! .. ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة..

ولكن كان إلى جانب الزلزلة، وزوغان الأبصار، وكرب الأنفاس.. كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله; والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله; والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن; وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها. ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر. ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب .. وها هم أولاء يزلزلون. فنصر الله إذن منهم قريب! ومن ثم قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله. وصدق الله ورسوله .. وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ..

[ ص: 2844 ] هذا ما وعدنا الله ورسوله .. هذا الهول، وهذا الكرب، وهذه الزلزلة، وهذا الضيق. وعدنا عليه النصر.. فلا بد أن يجيء النصر: وصدق الله ورسوله .. صدق الله ورسوله في الأمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها.. ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله: وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ..

لقد كانوا ناسا من البشر، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر، وضعف البشر. وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري; ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس; ويفقدوا خصائصه ومميزاته. فلهذا خلقهم الله. خلقهم ليبقوا بشرا، ولا يتحولوا جنسا آخر. لا ملائكة ولا شياطين، ولا بهيمة ولا حجرا.. كانوا ناسا من البشر يفزعون، ويضيقون بالشدة، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة. ولكنهم كانوا - مع هذا - مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله وتمنعهم من السقوط; وتجدد فيهم الأمل، وتحرسهم من القنوط.. وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير.

وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور. علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا،لم يتخلوا عن طبيعة البشر، بما فيها من قوة وضعف. وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء.

وحين نرانا ضعفنا مرة، أو زلزلنا مرة، أو فزعنا مرة، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق.. فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا; أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا! هنالك العروة الوثقى. عروة السماء. وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة، ونسترد الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر. فنثبت ونستقر، ونقوى ونطمئن، ونسير في الطريق..

وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام. النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده، وثباته على عهده مع الله، فمنهم من لقيه، ومنهم من ينتظر أن يلقاه:

من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وما بدلوا تبديلا ..

هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه. نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار. ثم ولم يوفوا بعهد الله: وكان عهد الله مسؤولا ..

روى الإمام أحمد - بإسناده - عن ثابت قال: "عمي أنس بن النضر - رضي الله عنه - سميت به - لم يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ، فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غبت عنه! لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله عز وجل ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها. فشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد. فاستقبل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال له أنس - رضي الله عنه - يا أبا عمرو أين واها لريح الجنة! إني أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل - رضي الله عنه - قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت أخته - عمتي الربيع ابنة النضر - : فما عرفت أخي إلا ببنانه. قال: فنزلت هذه الآية: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. إلخ قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضى الله عنهم. (ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة ) .

وهذه الصورة الوضيئة لهذا النموذج من المؤمنين تذكر هنا تكملة لصورة الإيمان، في مقابل صورة النفاق [ ص: 2845 ] والضعف ونقض العهد من ذلك الفريق. لتتم المقابلة في معرض التربية بالأحداث وبالقرآن.

ويعقب عليها ببيان حكمة الابتلاء، وعاقبة النقض والوفاء; وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله:

ليجزي الله الصادقين بصدقهم، ويعذب المنافقين - إن شاء - أو يتوب عليهم. إن الله كان غفورا رحيما ..

ومثل هذا التعقيب يتخلل تصوير الحوادث والمشاهد - ليرد الأمر كله إلى الله، ويكشف عن حكمة الأحداث والوقائع. فليس شيء منها عبثا ولا مصادفة. إنما تقع وفق حكمة مقدرة، وتدبير قاصد. وتنتهي إلى ما شاء الله من العواقب. وفيها تتجلى رحمة الله بعباده. ورحمته ومغفرته أقرب وأكبر: إن الله كان غفورا رحيما ..

ويختم الحديث عن الحدث الضخم بعاقبته التي تصدق ظن المؤمنين بربهم; وضلال المنافقين والمرجفين وخطإ تصوراتهم; وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية:

ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا ..

وقد بدأت المعركة، وسارت في طريقها، وانتهت إلى نهايتها، وزمامها في يد الله يصرفها كيف يشاء. وأثبت النص القرآني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره. فأسند إلى الله تعالى إسنادا مباشرا كل ما تم من الأحداث والعواقب، تقريرا لهذه الحقيقة، وتثبيتا لها في القلوب; وإيضاحا للتصور الإسلامي الصحيح.

ولم تدر الدائرة على المشركين من قريش وغطفان وحدهم. بل دارت كذلك على بني قريظة حلفاء المشركين من يهود:

وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم، وقذف في قلوبهم الرعب، فريقا تقتلون وتأسرون فريقا. وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأرضا لم تطئوها. وكان الله على كل شيء قديرا ..

فأما قصة هذا فتحتاج إلى شيء من إيضاح قصة اليهود مع المسلمين..

إن اليهود في المدينة لم يهادنوا الإسلام بعد وفوده عليهم إلا فترة قصيرة. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد عقد معهم مهادنة أول مقدمه إليها أوجب لهم فيها النصرة والحماية مشترطا عليهم ألا يغدروا ولا يفجروا ولا يتجسسوا ولا يعينوا عدوا، ولا يمدوا يدا بأذى.

ولكن اليهود ما لبثوا أن أحسوا بخطر الدين الجديد على مكانتهم التقليدية بوصفهم أهل الكتاب الأول. وقد كانوا يتمتعون بمكانة عظيمة بين أهل يثرب بسبب هذه الصفة. كذلك أحسوا بخطر التنظيم الجديد الذي جاء به الإسلام للمجتمع بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانوا قبل ذلك يستغلون الخلاف القائم بين الأوس والخزرج لتكون لهم الكلمة العليا في المدينة. فلما وحد الإسلام الأوس والخزرج تحت قيادة نبيهم الكريم لم يجد اليهود الماء العكر الذي كانوا يصطادون بين الفريقين فيه!

وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير إسلام حبرهم وعالمهم عبد الله بن سلام . ذلك أن الله شرح صدره للإسلام فأسلم وأمر أهل بيته فأسلموا معه. ولكنه إن هو أعلن إسلامه خاف أن تتقول عليه يهود. فطلب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسألهم عنه قبل أن يخبرهم بإسلامه! فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا. فخرج عندئذ عبد الله بن سلام إليهم، وطلب منهم أن يؤمنوا بما آمن به. فوقعوا فيه، وقالوا قالة السوء، وحذروا منه أحياء اليهود. وأحسوا بالخطر الحقيقي على كيانهم الديني والسياسي. فاعتزموا الكيد لمحمد - صلى الله عليه وسلم - كيدا لا هوادة فيه.

[ ص: 2846 ] ومنذ هذا اليوم بدأت الحرب التي لم تضع أوزارها قط حتى اليوم بين الإسلام ويهود!

لقد بدأت في أول الأمر حربا باردة، بتعبير أيامنا هذه. بدأت حرب دعاية ضد محمد - عليه الصلاة والسلام - وضد الإسلام. واتخذوا في الحرب أساليب شتى مما عرف به اليهود في تاريخهم كله. اتخذوا خطة التشكيك في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلقاء الشبهات حول العقيدة الجديدة. واتخذوا طريقة الدس بين بعض المسلمين وبعض. بين الأوس والخزرج مرة، وبين الأنصار والمهاجرين مرة. واتخذوا طريقة التجسس على المسلمين لحساب أعدائهم من المشركين. واتخذوا طريقة اتخاذ بطانة من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يوقعون بواسطتهم الفتنة في صفوف المسلمين.. وأخيرا أسفروا عن وجوههم واتخذوا طريق التأليب على المسلمين، كالذي حدث في غزوة الأحزاب..

وكانت أهم طوائفهم بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. وكان لكل منها شأن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع المسلمين.

فأما بنو قينقاع وكانوا أشجع يهود، فقد حقدوا على المسلمين انتصارهم ببدر ; وأخذوا يتحرشون بهم ويتنكرون للعهد الذي بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيفة أن يستفحل أمره فلا يعودون يملكون مقاومته، بعد ما انتصر على قريش في أول اشتباك بينه وبينهم.

وقد ذكر ابن هشام في السيرة عن طريق ابن إسحاق ما كان من أمرهم قال:

وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال: " يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم " قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.

وذكر ابن هشام عن طريق عبد الله بن جعفر قال:

كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بحلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها، فصاحت. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، وشدت يهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.

وأكمل ابن إسحاق سياق الحادث قال:

فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على حكمه، فقام عبد الله بن أبي بن سلول ، حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج - قال: فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد أحسن في موالي. قال: فأعرض عنه. فأدخل يده في جيب درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلني. وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رأوا لوجهه ظللا. ثم قال: ويحك! أرسلني. قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي. أربع مائة حاسر. وثلاث مائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود. تحصدهم في غداة واحدة.

[ ص: 2847 ] إني والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم لك.

وكان عبد الله بن أبي لا يزال صاحب شأن في قومه. فقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شفاعته في بني قينقاع على أن يجلوا عن المدينة، وأن يأخذوا معهم أموالهم عدا السلاح. وبذلك تخلصت المدينة من قطاع يهودي ذي قوة عظيمة.

وأما بنو النضير، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم في سنة أربع بعد غزوة أحد يطلب مشاركتهم في دية قتيلين حسب المعاهدة التي كانت بينه وبينهم. فلما أتاهم قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد - فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟

ثم أخذوا في تنفيذ هذه المؤامرة الدنيئة، فألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان من أمرهم فقام وخرج راجعا إلى المدينة ، وأمر بالتهيؤ لحربهم. فتحصنوا منه في الحصون. وأرسل إليهم عبد الله بن أبي بن سلول (رأس النفاق) أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم. إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. ولكن المنافقين لم يفوا بعهدهم. وقذف الله الرعب في قلوب بني النضير فاستسلموا بلا حرب ولا قتال. وسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح. ففعل. فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام. ومن أشرافهم - ممن سار إلى خيبر - سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب .. هؤلاء الذين كان لهم ذكر في تأليب مشركي قريش وغطفان في غزوة الأحزاب.

والآن نجيء إلى غزوة بني قريظة . وقد مر من شأنهم في غزوة الأحزاب أنهم كانوا إلبا على المسلمين مع المشركين، بتحريض من زعماء بني النضير ، وحيي بن أخطب على رأسهم. وكان نقض بني قريظة لعهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الظرف أشق على المسلمين من هجوم الأحزاب من خارج المدينة .

ومما يصور جسامة الخطر الذي كان يتهدد المسلمين، والفزع الذي أحدثه نقض قريظة للعهد ما روي من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انتهى إليه الخبر، بعث سعد بن معاذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير - رضي الله عنهم - فقال: " انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس. وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس " (مما يصور ما كان يتوقعه - صلى الله عليه وسلم - من وقع الخبر في النفوس) .

فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم. نالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد! .. ثم رجع الوفد فأبلغوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتلميح لا بالتصريح. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الله أكبر. أبشروا يا معشر المسلمين "
.. (تثبيتا للمسلمين من وقع الخبر السيئ أن يشيع في الصفوف)

ويقول ابن إسحاق : وعظم عند ذلك البلاء; واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم. حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين.. إلخ.

[ ص: 2848 ] فهكذا كان الأمر إبان معركة الأحزاب.

فلما أيد الله تعالى نبيه بنصره، ورد أعداءه بغيظهم لم ينالوا خيرا; وكفى الله المؤمنين القتال.. رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة منصورا، ووضع الناس السلاح، فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من وعثاء المرابطة، في بيت أم سلمة - رضي الله عنها - إذ تبدى له جبريل - عليه السلام - فقال: " أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : نعم " . قال: " ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها! وهذا أوان رجوعي من طلب القوم " . ثم قال: " إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة " - وكانت على أميال من المدينة - . وذلك بعد صلاة الظهر. وقال - صلى الله عليه وسلم: " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة " . فسار الناس في الطريق، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا: لم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تعجيل المسير. وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة . فلم يعنف واحدا من الفريقين.

وتبعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم (صاحب عبس وتولى أن جاءه الأعمى..) رضي الله عنه - وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ثم نازلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة. فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس - رضي الله عنه - لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية. واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع حتى استطلقهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك. ولم يعلموا أن سعدا - رضي الله عنه - كان قد أصابه سهم في أكحله (وهو عرق رئيسي في الذراع لا يرقأ إذا قطع) أيام الخندق; فكواه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكحله، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب; وقال سعد - رضي الله عنه - فيما دعا به: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقنا لها وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها; ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة . فاستجاب الله تعالى دعاءه. وقدر عليهم أن ينزلوا على حكمه باختيارهم، طلبا من تلقاء أنفسهم.

فعند ذلك ستدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة ليحكم فيهم. فلما أقبل - وهو راكب على حمار قد وطأوا له عليه - جعل الأوس يلوذون به، يقولون: يا سعد إنهم مواليك، فأحسن عليهم. ويرققونه عليهم ويعطفونه. وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال - رضي الله عنه - : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير مستبقيهم!

فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله: " قوموا إلى سيدكم " فقام إليه المسلمون فأنزلوه; إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم.

فلما جلس قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن هؤلاء - وأشار إليهم - قد نزلوا على حكمك.

فاحكم فيهم بما شئت "
فقال - رضي الله عنه - : وحكمي نافذ عليهم؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : " نعم " . قال: وعلى من في هذه الخيمة؟ قال: " نعم " . قال: وعلى من هاهنا (وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معرض بوجهه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إجلالا وإكراما وإعظاما) . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نعم " . فقال - رضي الله عنه - : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم وأموالهم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق [ ص: 2849 ] سبعة أرقعة " (أي سماوات) .

ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأخاديد فخدت في الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم. وكانوا ما بين السبع مائة، والثماني مائة. وسبي من لم ينبت (كناية عن البلوغ) مع النساء والأموال. وفيهم حيي بن أخطب. وكان قد دخل معهم في حصنهم كما عاهدهم.

ومنذ ذلك اليوم ذلت يهود، وضعفت حركة النفاق في المدينة ; وطأطأ المنافقون رؤوسهم، وجبنوا عن كثير مما كانوا يأتون. وتبع هذا وذلك أن المشركين لم يعودوا يفكرون في غزو المسلمين، بل أصبح المسلمون هم الذين يغزونهم. حتى كان فتح مكة والطائف. ويمكن أن يقال: إنه كان هناك تلازم بين حركات اليهود وحركات المنافقين وحركات المشركين. وإن طرد اليهود من المدينة قد أنهى هذا التلازم، وإنه كان فارقا واضحا بين عهدين في نشأة الدولة الإسلامية واستقرارها.

فهذا مصداق قول الله سبحانه:

وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم، وقذف في قلوبهم الرعب، فريقا تقتلون وتأسرون فريقا. وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها. وكان الله على كل شيء قديرا .

والصياصي: الحصون والأرض التي ورثها المسلمون ولم يطؤوها، ربما كانت أرضا مملوكة لبني قريظة خارج محلتهم. وقد آلت للمسلمين فيما آل إليهم من أموالهم. وربما كانت إشارة إلى تسليم بني قريظة أرضهم بغير قتال. ويكون الوطء معناه الحرب التي توطأ فيها الأرض.

وكان الله على كل شيء قديرا ..

فهذا هو التعقيب المنتزع من الواقع; وهو التعقيب الذي يرد الأمر كله إلى الله. وقد مضى السياق في عرض المعركة كلها يرد الأمر كله إلى الله. ويسند الأفعال فيها إلى الله مباشرة. تثبيتا لهذه الحقيقة الكبيرة، التي يثبتها الله في قلوب المسلمين بالأحداث الواقعة، وبالقرآن بعد الأحداث، ليقوم عليها التصور الإسلامي في النفوس.

وهكذا يتم استعراض ذلك الحادث الضخم. وقد اشتمل على السنن والقيم والتوجيهات والقواعد التي جاء القرآن ليقيمها في قلوب الجماعة المسلمة وفي حياتها على السواء.

وهكذا تصبح الأحداث مادة للتربية; ويصبح القرآن دليلا وترجمانا للحياة وأحداثها، ولاتجاهها وتصوراتها. وتستقر القيم، وتطمئن القلوب، بالابتلاء وبالقرآن سواء!

انتهى الجزء الحادي والعشرون ويليه الجزء الثاني والعشرون مبدوءا بقوله تعالى:

يا أيها النبي قل لأزواجك ...

التالي السابق


الخدمات العلمية