وبمناسبة جزمهم بأن الساعة لا تأتيهم - وهي غيب من غيب الله - وتأكيد الله لمجيئها - وهو عالم الغيب -
[ ص: 2894 ] وتبليغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أمره ربه بتبليغه من أمرها يقرر أن
الذين أوتوا العلم يدركون ويشهدون بأن ما جاءه من ربه هو الحق وأنه يهدي إلى طريق العزيز الحميد:
ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ..
وقد ورد أن المقصود بالذين أوتوا العلم هم أهل الكتاب، الذين يعلمون من كتابهم أن هذا القرآن هو الحق، وأنه يقود إلى صراط العزيز الحميد.
ومجال الآية أكبر وأشمل. فالذين أوتوا العلم في أي زمان وفي أي مكان، من أي جيل ومن أي قبيل، يرون هذا متى صح علمهم واستقام; واستحق أن يوصف بأنه " العلم " ! والقرآن كتاب مفتوح للأجيال، وفيه من الحق ما يكشف عن نفسه لكل ذي علم صحيح. وهو يكشف عن الحق المستكن في كيان هذا الوجود كله. وهو أصدق ترجمة وصفية لهذا الوجود وما فيه من حق أصيل.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ..
وصراط العزيز الحميد هو المنهج الذي أراده للوجود; واختاره للبشر لينسق خطاهم مع خطى هذا الكون الذي يعيشون فيه. وهو الناموس الذي يهيمن على أقدار هذا الكون كله، بما فيه من الحياة البشرية التي لا تنفصل في أصلها ونشأتها، ولا في نظامها وحركتها عن هذا الكون وما فيه ومن فيه.
يهدي إلى صراط العزيز الحميد بما ينشئه في إدراك المؤمن من تصور للوجود وروابطه وعلاقاته وقيمه، ومكان هذا الإنسان منه، ودوره فيه; وتعاون أجزاء هذا الكون من حوله - وهو معها - في تحقيق مشيئة الله وحكمته في خلقه; وتناسق حركات الجميع وتوافقها في الاتجاه إلى بارئ الوجود.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بتصحيح منهج التفكير، وإقامته على أسس سليمة، متفقة مع الإيقاعات الكونية على الفطرة البشرية; بحيث يؤدي هذا المنهج بالفكر البشري إلى إدراك طبيعة هذا الكون وخواصه وقوانينه، والاستعانة بها، والتجاوب معها بلا عداء ولا اصطدام ولا تعويق.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بمنهجه التربوي الذي يعد الفرد للتجاوب والتناسق مع الجماعة البشرية. ويعد الجماعة البشرية للتجاوب والتناسق - أفرادا وجماعات - مع مجموعة الخلائق التي تعمر هذا الكون! ويعد هذه الخلائق كلها للتجاوب والتناسق مع طبيعة الكون الذي تعيش فيه.. كل ذلك في بساطة ويسر ولين.
ويهدي إلى صراط العزيز الحميد بما فيه من نظم وتشريعات مستقيمة مع فطرة الإنسان وظروف حياته ومعاشه الأصيلة متناسقة مع القوانين الكلية التي تحكم بقية الأحياء، وسائر الخلائق; فلا يشذ عنها الإنسان بنظمه وتشريعاته. وهو أمة من هذه الأمم في نطاق هذا الكون الكبير.
إن هذا الكتاب هو الدليل إلى هذا الصراط. الدليل الذي وضعه
خالق الإنسان وخالق الصراط، العارف بطبيعة هذا وذاك. وإنك لتكون حسن الطالع وأنت تقوم برحلة في طريق لو حصلت على دليل من وضع المهندس الذي أنشأ هذا الطريق. فكيف بمنشئ الطريق ومنشئ السالك في الطريق؟!
وبعد هذه اللمسة الموقظة الموجهة يستأنف حكاية حديثهم عن البعث، ودهشتهم البالغة لهذا الأمر، الذي يرونه عجيبا غريبا، لا يتحدث به إلا من أصابه طائف من الجن، فهو يتفوه بكل غريب عجيب، أو يفتري
[ ص: 2895 ] الكذب ويقول بما لا يمكن أن يكون.
وقال الذين كفروا: هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد! أفترى على الله كذبا أم به جنة؟ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ..
إلى هذا الحد من الاستغراب والدهش كانوا يقابلون قضية البعث. فيعجبون الناس من أمر القائل بها في أسلوب حاد من التهكم والتشهير:
هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد؟ هل ندلكم على رجل عجيب غريب، ينطق بقول مستنكر بعيد، حتى ليقول: إنكم بعد الموت والبلى والتمزق الشديد تخلقون من جديد، وتعودون للوجود؟!
ويمضون في العجب والتعجيب، والاستنكار والتشهير:
أفترى على الله كذبا أم به جنة؟ .. فما يقول مثل هذا الكلام - بزعمهم - إلا
كاذب يفتري على الله ما لم يقله، أو مسته الجن فهو يهذي أو ينطق بالعجيب الغريب!
ولم هذا كله؟ لأنه يقول لهم: إنكم ستخلقون خلقا جديدا! وفيم العجب وهم قد خلقوا ابتداء؟ إنهم لا ينظرون هذه العجيبة الواقعة. عجيبة خلقهم الأول. ولو قد نظروها وتدبروها ما عجبواأدنى عجب للخلق الجديد. ولكنهم ضالون لا يهتدون. ومن ثم يعقب على تشهيرهم وتعجيبهم تعقيبا شديدا مرهوبا:
بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ..
وقد يكون المقصود بالعذاب الذي هم فيه عذاب الآخرة، فهو لتحققه كأنهم واقعون فيه وقوعهم في الضلال البعيد الذي لا يرجى معه اهتداء.. وقد يكون هذا تعبيرا عن معنى آخر. معنى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة يعيشون في عذاب كما يعيشون في ضلال. وهي حقيقة عميقة. فالذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي. لا أمل له ولا رجاء في نصفة ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في الحياة. وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة، وثوابها للمحسن وعقابها للمسيء. وإلا ابتغاء وجه الله والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الآخر، الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة; وإن تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله. والذي يحرم هذه النافذة المضيئة الندية المريحة يعيش ولا ريب في العذاب كما يعيش في الضلال. يعيش فيهما وهو حي على هذه الأرض قبل أن يلقى عذاب الآخرة جزاء على هذا العذاب الذي لقيه في دنياه!
إن الاعتقاد بالآخرة رحمة ونعمة يهبهما الله لمن يستحقهما من عباده بإخلاص القلب، وتحري الحق، والرغبة في الهدى. وأرجح أن هذا هو الذي تشير إليه الآية، وهي تجمع على الذين لا يؤمنون بالآخرة بين العذاب والضلال البعيد.
هؤلاء المكذبون بالآخرة يوقظهم بعنف على مشهد كوني يصور لهم أنه واقع بهم - لو شاء الله - وظلوا هم في ضلالهم البعيد. مشهد الأرض تخسف بهم والسماء تتساقط قطعا عليهم:
أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض؟ إن نشأ نخسف بهم الأرض، أو نسقط عليهم كسفا من السماء. إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ..
وهو مشهد كوني عنيف، منتزع في الوقت ذاته من مشاهداتهم أو من مدركاتهم المشهودة على كل حال.
[ ص: 2896 ] فخسف الأرض يقع ويشهده الناس. وترويه القصص والروايات أيضا. وسقوط قطع من السماء يقع كذلك عند سقوط الشهب وحدوث الصواعق. وهم رأوا شيئا من هذا أو سمعوا عنه. فهذه اللمسة توقظ الغفاة الغافلين، الذين يستبعدون مجيء الساعة. والعذاب أقرب إليهم لو أراد الله أن يأخذهم به في هذه الأرض قبل قيام الساعة. يمكن أن يقع بهم من هذه الأرض وهذه السماء التي يجدونها من بين أيديهم ومن خلفهم محيطة بهم، وليست بعيدة عنهم بعد الساعة المغيبة في علم الله. ولا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون.
وفي هذا الذي يشهدونه من السماء والأرض، والذي يتوقع من خسف الأرض في أية لحظة أو سقوط قطع من السماء. في هذا آية للقلب الذي يرجع ويثوب:
إن في ذلك لآية لكل عبد منيب .. لا يضل ذلك الضلال البعيد..