فنخلص إذن من هذا العرض العام إلى تفصيل النصوص:
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله: موتوا. ثم أحياهم. إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ..
لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات، عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.. من - هم؟ وفي أي أرض كانوا؟ وفي أي زمان خرجوا؟ .... فلو كان الله يريد بيانا عنهم لبين، كما يجيء القصص
[ ص: 264 ] المحدد في القرآن. إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها، ولا تراد أحداثها وأماكنها وأزمانها. وتحديد الأماكن والأزمان لا يزيد هنا شيئا على عبرة القصة ومغزاها..
إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة، وأسبابهما الظاهرة، وحقيقتهما المضمرة ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة. والاطمئنان إلى قدر الله فيهما. والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع، فالمقدر كائن، والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف..
يراد أن يقال: إن الحذر من الموت لا يجدي وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة، ولا يمدان أجلا، ولا يردان قضاء وإن الله هو واهب الحياة، وهو آخذ الحياة; وإنه متفضل في الحالتين: حين يهب، وحين يسترد; والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد. وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك; وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء:
إن الله لذو فضل على الناس. ولكن أكثر الناس لا يشكرون .
إن تجمع هؤلاء القوم
وهم ألوف وخروجهم من ديارهم
حذر الموت . لا يكون إلا في حالة هلع وجزع، سواء كان هذا الخروج خوفا من عدو مهاجم، أو من وباء حائم.. إن هذا كله لم يغن عنهم من الموت شيئا:
فقال لهم الله.. موتوا ..
كيف قال لهم؟ كيف ماتوا؟ هل ماتوا بسبب مما هربوا منه وفزعوا؟ هل ماتوا بسبب آخر من حيث لم يحتسبوا؟ كل ذلك لم يرد عنه تفصيل، لأنه ليس موضع العبرة. إنما موضع العبرة أن الفزع والجزع والخروج والحذر، لم تغير مصيرهم، ولم تدفع عنهم الموت، ولم ترد عنهم قضاء الله. وكان الثبات والصبر والتجمل أولى لو رجعوا لله..
ثم أحياهم .
كيف؟ هل بعثهم من موت ورد عليهم الحياة; هل خلف من ذريتهم خلف تتمثل فيه الحياة القوية فلا يجزع ولا يهلع هلع الآباء؟ .. ذلك كذلك لم يرد عنه تفصيل. فلا ضرورة لأن نذهب وراءه في التأويل، لئلا نتيه في أساطير لا سند لها كما جاء في بعض التفاسير.. إنما الإيحاء الذي يتلقاه القلب من هذا النص أن الله وهبهم الحياة من غير جهد منهم. في حين أن جهدهم لم يرد الموت عنهم.
إن الهلع لا يرد قضاء; وإن الفزع لا يحفظ حياة ; وإن الحياة بيد الله هبة منه بلا جهد من الأحياء..
إذن فلا نامت أعين الجبناء!.
وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ..
هنا ندرك طرفا من هدف تلك الحادثة ومغزاها; وندرك طرفا من حكمة الله في سوق هذه التجربة للجماعة المسلمة في جيلها الأول وفي أجيالها جميعا.. ألا يقعدن بكم حب الحياة، وحذر الموت، عن الجهاد في سبيل الله. فالموت والحياة بيد الله. قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل غاية أخرى. وتحت راية الله لا تحت راية أخرى.. قاتلوا في سبيل الله :
واعلموا أن الله سميع عليم ..
[ ص: 265 ] يسمع ويعلم.. يسمع القول ويعلم ما وراءه. أو يسمع فيستجيب ويعلم ما يصلح الحياة والقلوب. قاتلوا في سبيل الله وليس هناك عمل ضائع عند الله، واهب الحياة وآخذ الحياة.
والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية. وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالبا بذكر الجهاد والقتال. وبخاصة في تلك الفترة حيث كان الجهاد تطوعا، والمجاهد ينفق على نفسه، وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد; فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق لتيسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله. وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق في صورة موحية دافعة:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة، والله يقبض ويبسط، وإليه ترجعون ..
وإذا كان الموت والحياة بيد الله ، والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء، فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق. إنما هو قرض حسن لله، مضمون عنده، يضاعفه أضعافا كثيرة. يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة; ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا، ورضى وقربى من الله.
ومرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله، لا إلى حرص وبخل، ولا إلى بذل وإنفاق:
والله يقبض ويبسط ..
والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف. فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله:
وإليه ترجعون .
وإذن فلا فزع من الموت، ولا خوف من الفقر، ولا محيد عن الرجعة إلى الله. وإذن فليجاهد المؤمنون في سبيل الله، وليقدموا الأرواح والأموال; وليستيقنوا أن أنفاسهم معدودة، وأن أرزاقهم مقدرة، وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة. ومردهم بعد ذلك إلى الله..
ولا يفوتني بعد تقرير تلك الإيحاءات الإيمانية التربوية الكريمة التي تضمنتها الآيات.. أن ألم بذلك الجمال الفني في الأداء:
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت؟ .. إن في التعبير استعراضا لهذه الألوف ولهذه الصفوف استعراضا ترسمه هاتان الكلمتان:
ألم تر؟ . وأي تعبير آخر ما كان ليرسم أمام المخيلة هذا الاستعراض كما رسمته هاتان الكلمتان العاديتان في موضعهما المختار.
ومن مشهد الألوف المؤلفة، الحذرة من الموت، المتلفتة من الذعر.. إلى مشهد الموت المطبق في لحظة; ومن خلال كلمة:
موتوا . كل هذا الحذر، وكل هذا التجمع، وكل هذه المحاولة.. كلها ذهبت هباء في كلمة واحدة:
موتوا . ليلقي ذلك في الحس عبث المحاولة، وضلالة المنهج; كما يلقي صرامة القضاء، وسرعة الفصل عند الله.
ثم أحياهم . هكذا بلا تفصيل للوسيلة.. إنها القدرة المالكة زمام الموت وزمام الحياة. المتصرفة في شؤون العباد، لا ترد لها إرادة ولا يكون إلا ما تشاء.. وهذا التعبير يلقي الظل المناسب على مشهد الموت ومشهد الحياة.
ونحن في مشهد إماتة وإحياء. قبض للروح وإطلاق.. فلما جاء ذكر الرزق كان التعبير:
والله يقبض ويبسط .. متناسقا في الحركة مع قبض الروح وإطلاقها في إيجاز كذلك واختصار.
[ ص: 266 ] وكذلك يبدو التناسق العجيب في تصوير المشاهد، إلى جوار التناسق العجيب في إحياء المعاني وجمال الأداء..