صفحة جزء
وفي ثقة المطمئن إلى صدقه، العارف بحدود وظيفته أجابهم الرسل:

قالوا: ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون. وما علينا إلا البلاغ المبين ..

أن الله يعلم، وهذا يكفي وأن وظيفة الرسل البلاغ، وقد أدوه، والناس بعد ذلك أحرار فيما يتخذون [ ص: 2962 ] لأنفسهم من تصرف، وفيما يحملون في تصرفهم من أوزار، والأمر بين الرسل وبين الناس هو أمر ذلك التبليغ عن الله; فمتى تحقق ذلك فالأمر كله بعد ذلك إلى الله.

ولكن المكذبين الضالين لا يأخذون الأمور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير; ولا يطيقون وجود الدعاة إلى الهدى; فتأخذهم العزة بالإثم; ويعمدون إلى الأسلوب الغليظ العنيف في مقاومة الحجة لأن الباطل ضيق الصدر عربيد:

قالوا: إنا تطيرنا بكم! لئن لم تنتهوا لنرجمنكم، وليمسنكم منا عذاب أليم ..

قلوا: إننا نتشاءم منكم; ونتوقع الشر في دعوتكم; فإن لم تنتهوا عنها فإننا لن نسكت عليكم، ولن ندعكم في دعوتكم: لنرجمنكم، وليمسنكم منا عذاب أليم ..

وهكذا أسفر الباطل عن غشمه; وأطلق على الهداة تهديده; وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة، وعربد في التعبير والتفكير!.

ولكن الواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريق:

قالوا: طائركم معكم ..

فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية، والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة; وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم، إنما هو معهم، مرتبط بنواياهم وأعمالهم، متوقف على كسبهم وعملهم، وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهم خيرا أو أن يجعلوه شرا، فإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه، ومن خلال اتجاهه، ومن خلال عمله. وهو يحمل طائره معه، هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة على أساس صحيح، أما التشاؤم بالوجوه، أو التشاؤم بالأمكنة، أو التشاؤم بالكلمات، فهو خرافة لا تستقيم على أصل مفهوم!.

وقالوا لهم: أإن ذكرتم؟ ..

يعني أترجموننا وتعذبوننا لأننا نذكركم! أفهذا جزاء التذكير؟.

بل أنتم قوم مسرفون ..

تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير; وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد; وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب!.

تلك كانت الاستجابة من القلوب المغلقة على دعوة الرسل، وهي مثل للقلوب التي تحدثت عنها السورة في الجولة الأولى; وصورة واقعية لذلك النموذج البشري المرسوم هناك.

فأما النموذج الآخر الذي اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب، فكان له مسلك آخر وكانت له استجابة غير هذه الاستجابة:

وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال: يا قوم اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون. وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون؟ أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون؟ إني إذا لفي ضلال مبين. إني آمنت بربكم فاسمعون ..

إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيها الصدق والبساطة، والحرارة واستقامة الإدراك. [ ص: 2963 ] وتلبية الإيقاع القوي للحق المبين.

فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعد ما رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه، وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتا; ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور; ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره وتحرك في شعوره، سعى به إلى قومه وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويهددون، وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين.

وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من عشيرته، ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه وتجيء به من أقصى المدينة إلى أقصاها..

قال: يا قوم اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ..

إن الذي يدعو مثل هذه الدعوة، وهو لا يطلب أجرا، ولا يبتغي مغنما، إنه لصادق، وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفا من الله ما الذي يدفعه إلى حمل هم الدعوة؟ ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة؟ والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم، وهو لا يجني من ذلك كسبا، ولا يطلب منهم أجرا؟

اتبعوا من لا يسألكم أجرا .. وهم مهتدون ..

وهداهم واضح في طبيعة دعوتهم، فهم يدعون إلى إله واحد، ويدعون إلى نهج واضح، ويدعون إلى عقيدة لا خرافة فيها ولا غموض؛ فهم مهتدون إلى نهج سليم، وإلى طريق مستقيم.

ثم عاد يتحدث إليهم عن نفسه هو وعن أسباب إيمانه، ويناشد فيهم الفطرة التي استيقظت فيه فاقتنعت بالبرهان الفطري السليم:

وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون؟ أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون؟ إني إذا لفي ضلال مبين ..

إنه تساؤل الفطرة الشاعرة بالخالق، المشدودة إلى مصدر وجودها الوحيد.. وما لي لا أعبد الذي فطرني؟ وما الذي يحيد بي عن هذا النهج الطبيعي الذي يخطر على النفس أول ما يخطر؟ إن الفطر مجذوبة إلى الذي فطرها، تتجه إليه أول ما تتجه، فلا تنحرف عنه إلا بدافع آخر خارج على فطرتها، ولا تلتوي إلا بمؤثر آخر ليس من طبيعتها، والتوجه إلى الخالق هو الأولى، وهو الأول، وهو المتجه الذي لا يحتاج إلى عنصر خارج عن طبيعة النفس وانجذابها الفطري.والرجل المؤمن يحس هذا في قرارة نفسه، فيعبر عنه هذا التعبير الواضح البسيط، بلا تكلف ولا لف ولا تعقيد!

وهو يحس بفطرته الصادقة الصافية كذلك أن المخلوق يرجع إلى الخالق في النهاية، كما يرجع كل شيء إلى مصدره الأصيل. فيقول:

وإليه ترجعون ..

ويتساءل لم لا أعبد الذي فطرني، والذي إليه المرجع والمصير؟ ويتحدث عن رجعتهم هم إليه، فهو خالقهم كذلك، ومن حقه أن يعبدوه.

[ ص: 2964 ] ثم يستعرض المنهج الآخر المخالف للمنهج الفطري المستقيم. فيراه ضلالا بينا: أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون؟ ..

وهل أضل ممن يدع منطق الفطرة الذي يدعو المخلوق إلى عبادة خالقه، وينحرف إلى عبادة غير الخالق بدون ضرورة ولا دافع؟ وهل أضل ممن ينحرف عن الخالق إلى آلهة ضعاف لا يحمونه ولا يدفعون عنه الضر حين يريد به خالقه الضر بسبب انحرافه وضلاله؟

إني إذا لفي ضلال مبين ..

والآن وقد تحدث الرجل بلسان الفطرة الصادقة العارفة الواضحة يقرر قراره الأخير في وجه قومه المكذبين المهددين المتوعدين؛ لأن صوت الفطرة في قلبه أقوى من كل تهديد ومن كل تكذيب:

إني آمنت بربكم فاسمعون ..

وهكذا ألقى بكلمة الإيمان الواثقة المطمئنة، وأشهدهم عليها، وهو يوحي إليهم أن يقولوها كما قالها، أو أنه لا يبالي بهم ماذا يقولون!.

ويوحي سياق القصة بعد ذلك أنهم لم يمهلوه أن قتلوه، وإن كان لا يذكر شيئا من هذا صراحة، إنما يسدل الستار على الدنيا وما فيها، وعلى القوم وما هم فيه; ويرفعه لنرى هذا الشهيد الذي جهر بكلمة الحق، متبعا صوت الفطرة، وقذف بها في وجوه من يملكون التهديد والتنكيل، نراه في العالم الآخر، ونطلع على ما ادخر الله له من كرامة، تليق بمقام المؤمن الشجاع المخلص الشهيد:

قيل: ادخل الجنة. قال: يا ليت قومي يعلمون. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ..

وتتصل الحياة الدنيا بالحياة الآخرة، ونرى الموت نقلة من عالم الفناء إلى عالم البقاء، وخطوة يخلص بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة، ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحق، ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم، ومن ظلمات الجاهلية إلى نور اليقين.

ونرى الرجل المؤمن، وقد اطلع على ما آتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة، يذكر قومه طيب القلب رضي النفس، يتمنى لو يراه قومه ويرون ما آتاه ربه من الرضا والكرامة، ليعرفوا الحق، معرفة اليقين.

هذا كان جزاء الإيمان، فأما الطغيان فكان أهون على الله من أن يرسل عليه الملائكة لتدمره؛ فهو ضعيف ضعيف:

وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء. وما كنا منزلين. إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ..

ولا يطيل هنا في وصف مصرع القوم، تهوينا لشأنهم، وتصغيرا لقدرهم، فما كانت إلا صيحة واحدة أخمدت أنفاسهم، ويسدل الستار على مشهدهم البائس المهين الذليل!.

التالي السابق


الخدمات العلمية