صفحة جزء
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون ..

ومشهد قدوم الليل، والنور يختفي والظلمة تغشى، مشهد مكرور يراه الناس في كل بقعة في خلال أربع وعشرين ساعة (فيما عدا بعض المواقع التي يدوم فيها النهار كما يدوم فيها الليل أسابيع وأشهرا قرب القطبين في الشمال والجنوب) وهو مع تكراره اليومي عجيبة تدعو إلى التأمل والتفكير.

والتعبير القرآني عن هذه الظاهرة - في هذا الموضع - تعبير فريد، فهو يصور النهار متلبسا بالليل; ثم ينزع الله النهار من الليل فإذا هم مظلمون، ولعلنا ندرك شيئا من سر هذا التعبير الفريد حين نتصور الأمر على حقيقته، فالأرض الكروية في دورتها حول نفسها في مواجهة الشمس; تمر كل نقطة منها بالشمس فإذا هذه النقطة نهار; حتى إذا دارت الأرض وانزوت تلك النقطة عن الشمس، انسلخ منها النهار ولفها الظلام - وهكذا تتوالى هذه الظاهرة على كل نقطة بانتظام وكأنما نور النهار ينزع أو يسلخ فيحل محله الظلام؛ فهو تعبير مصور للحقيقة الكونية أدق تصوير.

والشمس تجري لمستقر لها ..

والشمس تدور حول نفسها، وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها، ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة في مكانها، إنما هي تجري، تجري فعلا، تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلا في الثانية!. والله - ربها الخبير بها وبجريانها وبمصيرها - يقول: إنها تجري لمستقر لها، هذا المستقر الذي ستنتهي إليه لا يعلمه إلا هو سبحانه، ولا يعلم موعده سواه.

وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه، وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، ندرك طرفا من صفة القدرة التي تصرف هذا الوجود عن قوة وعن علم:

ذلك تقدير العزيز العليم ..

والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ..

والعباد يرون القمر في منازله تلك، يولد هلالا، ثم ينمو ليلة بعد ليلة حتى يستدير بدرا، ثم يأخذ في التناقص حتى يعود هلالا مقوسا كالعرجون القديم. والعرجون هو العذق الذي يكون فيه البلح من النخلة.

والذي يلاحظ القمر ليلة بعد ليلة يدرك ظل التعبير القرآني العجيب: حتى عاد كالعرجون القديم .. وبخاصة ظل ذلك اللفظ القديم . فالقمر في لياليه الأولى هلال، وفي لياليه الأخيرة هلال، ولكنه في [ ص: 2969 ] الأولى يبدو وكأن فيه نضارة وفتوة، وفي الأخيرة يطلع وكأنما يغشاه سهوم ووجوم، ويكسوه شحوب وذبول، ذبول العرجون القديم! فليست مصادفة أن يعبر القرآن الكريم عنه هذا التعبير الموحي العجيب!

والحياة مع القمر ليلة بعد ليلة تثير في الحس مشاعر وخواطر ندية ثرية موحية عميقة، والقلب البشري الذي يعيش مع القمر دورة كاملة، لا ينجو من تأثرات واستجابات، ومن سبحات مع اليد المبدعة للجمال والجلال; المدبرة للأجرام بذلك النظام، سواء كان يعلم سر هذه المنازل والأشكال القمرية المختلفة أو لا يعلم.فالمشاهدة وحدها كفيلة بتحريك القلب، واستجاشة الشعور، وإثارة التدبر والتفكير.

وأخيرا يقرر دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة، ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق:

لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون ..

ولكل نجم أو كوكب فلك، أو مدار، لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه. والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة؛ فالمسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس تقدر بنحو ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال، والقمر يبعد عن الأرض بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال، وهذه المسافات على بعدها ليست شيئا يذكر حين تقاس إلى بعد ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا، وهو يقدر بنحو أربع سنوات ضوئية، وسرعة الضوء تقدر بستة وثمانين ومائة ألف من الأميال في الثانية الواحدة!. (أي إن أقرب نجم إلينا يبعد عنا بنحو مائة وأربعة مليون مليون ميل!) .

وقد قدر الله خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب، ووضع تصميم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع - حتى يأتي الأجل المعلوم - فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر، والليل لا يسبق النهار، ولا يزحمه في طريقه، لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبدا فلا يسبق أحدهما الآخر أو يزحمه في الجريان!

وكل في فلك يسبحون ..

وحركة هذه الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفين في الخضم الفسيح، فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطا سابحة في ذلك الفضاء المرهوب.

وإن الإنسان ليتضاءل ويتضاءل، وهو ينظر إلى هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة، والكواكب السيارة، متناثرة في ذلك الفضاء، سابحة في ذلك الخضم، والفضاء من حولها فسيح فسيح وأحجامها الضخمة تائهة في ذلك الفضاء الفسيح!.

وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون، إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين ..

إن في السياق مناسبة لطيفة بين النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها، والفلك المشحون السابح في الماء يحمل ذرية بنيآدم! مناسبة في الشكل، ومناسبة في الحركة، ومناسبة في تسخير هذا وذلك بأمر الله، وحفظه بقدرته في السماوات والأرض سواء.

وهذه آية كتلك يراها العباد ولا يتدبرونها، بل هذه أقرب إليهم وأيسر تدبرا لو فتحوا قلوبهم للآيات.

[ ص: 2970 ] ولعل الفلك المشحون المذكور هنا هو فلك نوح أبي البشر الثاني; الذي حمل فيه ذرية آدم، ثم جعل الله لهم من مثله هذه السفن التي تمخر بهم العباب، وهؤلاء وهؤلاء حملتهم قدرة الله ونواميسه التي تحكم الكون وتصرفه; وتجعل الفلك يعوم على وجه الماء، بحكم خواص الفلك، وخواص الماء، وخواص الريح أو البخار، أو الطاقة المنطلقة من الذرة، أو غيرها من القوى. وكلها من أمر الله وخلقه وتقديره.

وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون. إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين .. والسفينة في الخضم كالريشة في مهب الريح، مهما ثقلت وضخمت وأتقن صنعها، وإلا تدركها رحمة الله فهي هالكة هالكة في لحظة من ليل أو نهار.والذين ركبوا البحار سواء عبروها في قارب ذي شراع أو في عابرة ضخمة للمحيط، يدركون هول البحر المخيف; وضآلة العصمة من خطره الهائل وغضبه الجبار، ويحسون معنى رحمة الله; وأنها وحدها العاصم بين العواصف والتيارات في هذا الخلق الهائل الذي تمسك يد الرحمة الإلهية عنانه الجامح، ولا تمسكه يد سواها في أرض أو سماء. وذلك حتى يقضي الكتاب أجله، ويحل الموعد المقدور في حينه، وفق ما قدره الحكيم الخبير: ومتاعا إلى حين ..

التالي السابق


الخدمات العلمية