صفحة جزء
ومع تلك الآيات الواضحات فالعباد في غفلة، لا تتوجه أنظارهم، ولا تستيقظ قلوبهم; ولا يكفون عن سخريتهم وتكذيبهم، واستعجالهم بالعذاب الذي ينذرهم به المرسلون:

وإذا قيل لهم: اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون. وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين. وإذا قيل لهم: أنفقوا مما رزقكم الله، قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟ إن أنتم إلا في ضلال مبين. ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ ..

إن تلك الآيات بذاتها لا تثير في قلوبهم التطلع والتدبر والحساسية والتقوى، وهي بذاتها كافية أن تثير في القلب المفتوح هزة ورعشة وانتفاضة; وأن تخلطه بهذا الوجود، هذا الكتاب المفتوح الذي تشير كل صفحة من صفحاته إلى عظمة الخالق، ولطيف تدبيره وتقديره، ولكن هؤلاء المطموسين لا يرونها، وإذا رأوها لا يتدبرونها.والله - لعظيم رحمته - لا يتركهم مع هذا بلا رسول ينذرهم ويوجههم ويدعوهم إلى رب هذا الكون وبارئ هذا الوجود، ويثير في قلوبهم الحساسية والخوف والتقوى ويحذرهم موجبات الغضب والعذاب، وهي محيطة بهم، من بين أيديهم ومن خلفهم، إلا ينتبهوا لها يقعوا فيها في كل خطوة من خطواتهم، وتتوالى عليهم الآيات مضافة إلى الآيات الكونية التي تحيط بهم في حيثما يتجهون، ولكنهم مع هذا يظلون في عمايتهم سادرين:

وإذا قيل لهم: اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون. وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ..

وإذا دعوا إلى إنفاق شيء من مالهم لإطعام الفقراء: قالوا ساخرين متعنتين:

أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟ ..

وتطاولوا على من يدعونهم إلى البر والإنفاق قائلين:

إن أنتم إلا في ضلال مبين !

وتصورهم للأمر على هذا النحو الآلي يشي بعدم إدراكهم لسنن الله في حياة العباد، فالله هو مطعم الجميع، [ ص: 2971 ] وهو رازق الجميع، وكل ما في الأرض من أرزاق ينالها العباد هي من خلقه، فلم يخلقوا هم لأنفسهم منها شيئا، وما هم بقادرين على خلق شيء أصلا، ولكن مشيئة الله في عمارة هذه الأرض اقتضت أن تكون للناس حاجات لا ينالونها إلا بالعمل والكد; وفلاحة هذه الأرض; وصناعة خاماتها; ونقل خيراتها من مكان إلى مكان، وتداول هذه الخيرات وما يقابلها من سلعة أو نقد أو قيم تختلف باختلاف الزمان والمكان. كما اقتضت أن يتفاوت الناس في المواهب والاستعدادات وفق حاجات الخلافة الكاملة في هذه الأرض، وهذه الخلافة الكاملة في هذه الأرض، وهذه الخلافة لا تحتاج إلى المواهب والاستعدادات المتعلقة بجمع المال والأرزاق وحدها، إنما تحتاج إلى مواهب واستعدادات أخرى قد تحقق ضرورات أساسية لخلافة الجنس الإنساني في الأرض، بينما يفوتها جمع المال والأرزاق ويعوزها!.

وفي خلال هذا الخضم الواسع لحاجات الخلافة ومطالبها، والمواهب والاستعدادات اللازمة لها، وما يترتب على هذه وتلك من تداول للمنافع والأرزاق، وتصارع وتضارب في الأنصبة والحظوظ، في خلال هذا الخضم الواسع المترابط الحلقات لا في جيل واحد، بل في أجيال متعددة قريبة وبعيدة، ماضية وحاضرة ومستقبلة.

في خلال هذا الخضم تتفاوت الأرزاق في أيدي العباد، ولكي لا ينتهي هذا التفاوت إلى إفساد الحياة والمجتمع، بينما هو ناشئ أصلا من حركة الحياة لتحقيق خلافة الإنسان في الأرض، يعالج الإسلام الحالات الفردية الضرورية بخروج أصحاب الثراء عن قدر من مالهم يعود على الفقراء ويكفل طعامهم وضرورياتهم، وبهذا القدر تصلح نفوس كثيرة من الفقراء والأغنياء سواء.فقد جعله الإسلام زكاة، وجعل في الزكاة معنى الطهارة، وجعلها كذلك عبادة، وألف بها بين الفقراء والأغنياء في مجتمعه الفاضل الذي ينشئه على غير مثال.

فقولة أولئك المحجوبين عن إدراك حكمة الله في الحياة: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟ .. وتطاولهم على الداعين إلى الإنفاق بقولهم: إن أنتم إلا في ضلال مبين .. إن هو إلا الضلال المبين الحقيقي عن إدراك طبيعة سنن الله، وإدراك حركة الحياة، وضخامة هذه الحركة، وعظمة الغاية التي تتنوع من أجلها المواهب والاستعدادات، وتتوزع بسببها الأموال والأرزاق.

والإسلام يضع النظام الذي يضمن الفرص العادلة لكل فرد، ثم يدع النشاط الإنساني المتنوع اللازم للخلافة في الأرض يجري مجراه النظيف، ثم يعالج الآثار السيئة بوسائله الواقية.

وأخيرا يجيء شكهم في الوعد، واستهزاؤهم بالوعيد:

ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ ..

ووعد الله لا يستقدم لاستعجال البشر ولا يستأخر لرجائهم في تأخيره، فكل شيء عند الله بمقدار، وكل أمر مرهون بوقته المرسوم، إنما تقع الأمور في مواعيدها وفق حكمة الله الأزلية التي تضع كل شيء في مكانه، وكل حادث في إبانه، وتمضي في تصريف هذا الكون وما فيه ومن فيه وفق النظام المقدر المرسوم في إمام مبين.

أما الرد على هذا السؤال المنكر فيجيء في مشهد من مشاهد القيامة يرون فيه كيف يكون، لا متى يكون..

ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون. فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون. قالوا: يا ويلنا! من بعثنا من مرقدنا؟ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون. إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ..

يسأل المكذبون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .. فيكون الجواب مشهدا خاطفا سريعا؛ صيحة تصعق كل حي، وتنتهي بها الحياة والأحياء:

[ ص: 2972 ] ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون. فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ..

فهي تأخذهم بغتة وهم في جدالهم وخصامهم في معترك الحياة، لا يتوقعونها ولا يحسبون لها حسابا، فإذا هم منتهون، كل على حاله التي هو عليها، لا يملك أن يوصي بمن بعده، ولا يملك أن يرجع إلى أهله فيقول لهم كلمة، وأين هم؟ إنهم مثله في أماكنهم منتهون!.

ثم ينفخ في الصور فإذا هم ينتفضون من القبور، ويمضون سراعا، وهم في دهش وذعر يتساءلون: من بعثنا من مرقدنا؟ ثم تزول عنهم الدهشة قليلا، فيدركون ويعرفون: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون !

ثم إذا الصيحة الأخيرة، صيحة واحدة. فإذا هذا الشتيت الحائر المذهول المسارع في خطاه المدهوش.

يثوب: فإذا هم جميع لدينا محضرون .. وتنتظم الصفوف، ويتهيأ الاستعراض في مثل لمح البصر ورجع الصدى، وإذا القرار العلوي في طبيعة الموقف، وطبيعة الحساب والجزاء يعلن على الجميع:

فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ..

وفي هذه السرعة الخاطفة التي تتم بها تلك المشاهد لثلاثة تناسق في الرد على أولئك الشاكين المرتابين في يوم الوعد المبين!.

ثم يطوي السياق موقف الحساب مع المؤمنين، ويعجل بعرض ما صاروا إليه من نعيم:

إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون. هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون. لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون. سلام قولا من رب رحيم ..

إنهم مشغولون بما هم فيه من النعيم، ملتذون متفكهون، وإنهم لفي ظلال مستطابة يستروحون نسيمها، وعلى أرائك متكئين في راحة ونعيم هم وأزواجهم، لهم فيها فاكهة ولهم كل ما يشاءون; وهم ملاك محقق لهم فيها كل ما يدعون.ولهم فوق اللذائذ التأهيل والتكريم: سلام يتلقونه من ربهم الكريم: قولا من رب رحيم ..

فأما الآخرون فلا يطوي السياق موقف حسابهم، بل يعرضه ويبرز فيه التبكيت والتنكيل:

وامتازوا اليوم أيها المجرمون. ألم أعهد إليكم - يا بني آدم - أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم. ولقد أضل منكم جبلا كثيرا. أفلم تكونوا تعقلون؟ هذه جهنم التي كنتم توعدون. اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون ..

إنهم يتلقون التحقير واترذيل: وامتازوا اليوم أيها المجرمون .. انعزلوا هكذا بعيدا عن المؤمنين!

ألم أعهد إليكم - يا بني آدم - أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين؟ ..

ونداؤهم هنا يا بني آدم .. فيه من التبكيت ما فيه، وقد أخرج الشيطان أباهم من الجنة ثم هم يعبدونه، وهو لهم عدو مبين.

وأن اعبدوني .. هذا صراط مستقيم ..

واصل إلي مؤد إلى رضاي.

فلم تحذروا عدوكم الذي أضل منكم أجيالا كثيرة.. أفلم تكونوا تعقلون؟ .

وفي نهاية هذا الموقف العصيب المهين يعلن الجزاء الأليم، في تهكم وتأنيب:

هذه جهنم التي كنتم توعدون. اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون !

[ ص: 2973 ] ولا يقف المشهد عند هذا الموقف المؤذي ويطويه، بل يستطرد العرض فإذا مشهد جديد عجيب:

اليوم نختم على أفواههم، وتكلمنا أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ..

وهكذا يخذل بعضهم بعضا، وتشهد عليهم جوارحهم، وتتفكك شخصيتهم مزقا وآحادا يكذب بعضها بعضا، وتعود كل جارحة إلى ربها مفردة، ويثوب كل عضو إلى بارئه مستسلما.

إنه مشهد عجيب رهيب تذهل من تصوره القلوب!.

كذلك انتهى المشهد وألسنتهم معقودة وأيديهم تتكلم، وأرجلهم تشهد، على غير م كانوا يعهدون من أمرهم وعلى غير ما كانوا ينتظرون، ولو شاء الله لفعل بهم غير ذلك، ولأجرى عليهم من البلاء ما يريد.ويعرض هنا نوعين من هذا البلاء لو شاء الله لأخذ بهما من يشاء:

ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط، فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ..

وهما مشهدان فيهما من البلاء قدر ما فيهما من السخرية والاستهزاء، السخرية بالمكذبين والاستهزاء بالمستهزئين، الذين كانوا يقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ ..

فهم ف المشهد الأول عميان مطموسون، ثم هم مع هذا العمى يستبقون الصراط ويتزاحمون على العبور، ويتخبطون تخبط العميان حين يتسابقون! ويتساقطون تساقط العميان حين يسارعون متنافسين!. فأنى يبصرون

وهم في المشهد الثاني قد جمدوا فجأة في مكانهم، واستحالوا تماثيل لا تمضي ولا تعود; بعد أن كانوا منذ لحظة عميانا يستبقون ويضطربون!.

وإنهم ليبدون في المشهدين كالدمى واللعب، في حال تثير السخرية والهزء، وقد كانوا من قبل يستخفون بالوعيد ويستهزئون!.

ذلك كله حين يحين الموعد الذي يستعجلون؛ فأما لو تركوا في الأرض، وعمروا طويلا وأمهلهم الوعد المرسوم بعض حين; فإنهم صائرون إلى شر يحمدون معه التعجيل، إنهم صائرون إلى شيخوخة وهرم، ثم إلى خرف ونكسة في الشعور والتفكير:

ومن نعمره ننكسه في الخلق. أفلا يعقلون ..

والشيخوخة نكسة إلى الطفولة، بغير ملاحة الطفولة وبراءتها المحبوبة! وما يزال الشيخ يتراجع، وينسى ما علم، وتضعف أعصابه، ويضعف فكره، ويضعف احتماله، حتى يرتد طفلا، ولكن الطفل محبوب اللثغة، تبسم له القلوب والوجوه عند كل حماقة، والشيخ مجتوى لا تقال له عثرة إلا من عطف ورحمة، وهو مثار السخرية كلما بدت عليه مخايل الطفولة وهو عجوز، وكلما استحمق وقد قوست ظهره السنون!

فهذه العاقبة كتلك تنتظر المكذبين، الذين لا يكرمهم الله بالإيمان الراشد الكريم..

التالي السابق


الخدمات العلمية