ثم يورد السياق التجربة الثانية، وأبطالها هم بنو إسرائيل من بعد
موسى :
ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله. قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا! قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم. والله عليم بالظالمين ..
ألم تر؟ كأنها حادث واقع ومشهد منظور.. لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل ، من كبرائهم وأهل الرأي فيهم - إلى نبي لهم. ولم يرد في السياق ذكر اسمه، لأنه ليس المقصود بالقصة، وذكره هنا لا يزيد شيئا في إيحاء القصة، وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل.. لقد اجتمعوا إلى نبي لهم، وطلبوا إليه أن يعين لهم ملكا يقاتلون تحت إمرته "في سبيل الله" . وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال، وأنه في "سبيل الله" يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم، ويقظة الإيمان في نفوسهم، وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق، وأن أعداءهم على ضلالة وكفر وباطل; ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله.
وهذا الوضوح وهذا الحسم هو نصف الطريق إلى النصر. فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل; ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف.. في سبيل الله.. فلا يغشيه الغبش الذي لا يدري معه إلى أين يسير.
وقد أراد نبيهم أن يستوثق من صدق عزيمتهم، وثبات نيتهم، وتصميمهم على النهوض بالتبعة الثقيلة، وجدهم فيما يعرضون عليه من الأمر:
قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ..
ألا ينتظر أن تنكلوا عن القتال إن فرض عليكم؟ فأنتم الآن في سعة من الأمر. فأما إذا استجبت لكم، فتقرر القتال عليكم فتلك فريضة إذن مكتوبة; ولا سبيل بعدها إلى النكول عنها.. إنها الكلمة اللائقة بني، والتأكد اللائق بني. فما يجوز أن تكون كلمات الأنبياء وأوامرهم موضع تردد أو عبث أو تراخ.
وهنا ارتفعت درجة الحماسة والفورة وذكر الملأ أن هناك من الأسباب الحافزة للقتال في سبيل الله ما يجعل القتال هو الأمر المتعين الذي لا تردد فيه:
قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ ..
ونجد أن الأمر واضح في حسهم، مقرر في نفوسهم.. إن أعداءهم أعداء الله ولدين الله. وقد أخرجوهم من ديارهم وسبوا أبناءهم. فقتالهم واجب; والطريق الواحدة التي أمامهم هي القتال; ولا ضرورة إلى المراجعة في هذه العزيمة أو الجدال.
ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم. ويعجل السياق بكشف الصفحة التالية:
فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ..
وهنا نطلع على
سمة خاصة من سمات بني إسرائيل في نقض العهد ، والنكث بالوعد، والتفلت من الطاعة، والنكوص عن التكليف، وتفرق الكلمة، والتولي عن الحق البين.. ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية الإيمانية; العالية الطويلة الأمد العميقة
[ ص: 267 ] التأثير. وهي - من ثم - سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر، وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر، كي لا تفاجأ بها، فيتعاظمها الأمر! فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب، ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل.
والتعقيب على هذا التولي:
والله عليم بالظالمين ..
وهو يشي بالاستنكار ووصم الكثرة التي تولت عن هذه الفريضة - بعد طلبها - وقبل أن تواجه الجهاد مواجهة عملية.. وصمها بالظلم. فهي ظالمة لنفسها، وظالمة لنبيها، وظالمة للحق الذي خذلته وهي تعرف أنه الحق، ثم تتخلى عنه للمبطلين!.
إن الذي يعرف أنه على الحق، وأن عدوه على الباطل - كما عرف الملأ من بني إسرائيل وهم يطلبون أن يبعث لهم نبيهم ملكا ليقاتلوا " في سبيل الله " . ثم يتولى بعد ذلك عن الجهاد ولا ينهض بتبعة الحق الذي عرفه في وجه الباطل الذي عرفه.. إنما هو من الظالمين المجزيين بظلمهم..
والله عليم بالظالمين ..
وقال لهم نبيهم: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا. قالوا: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ قال: إن الله اصطفاه عليكم، وزاده بسطة في العلم والجسم. والله يؤتي ملكه من يشاء. والله واسع عليم ..
وفي هذه اللجاجة تتكشف سمة من سمات إسرائيل التي وردت الإشارات إليها كثيرة في هذه السورة.. لقد كان مطلبهم أن يكون لهم ملك يقاتلون تحت لوائه. ولقد قالوا: إنهم يريدون أن يقاتلوا " في سبيل الله " . فها هم أولاء ينغضون رؤوسهم، ويلوون أعناقهم، ويجادلون في اختيار الله لهم كما أخبرهم نبيهم; ويستنكرون أن يكون
طالوت - الذي بعثه الله لهم - ملكا عليهم. لماذا؟ لأنهم أحق بالملك منه بالوراثة. فلم يكن من نسل الملوك فيهم! ولأنه لم يؤت سعة من المال تبرر التغاضي عن أحقية الوراثة! .. وكل هذا غبش في التصور، كما أنه من سمات بني إسرائيل المعروفة..
ولقد كشف لهم نبيهم عن أحقيته الذاتية، وعن حكمة الله في اختياره:
قال: إن الله اصطفاه عليكم، وزاده بسطة في العلم والجسم. والله يؤتي ملكه من يشاء. والله واسع عليم ..
إنه رجل قد اختاره الله.. فهذه واحدة.. وزاده بسطة في العلم والجسم.. وهذه أخرى.. والله
يؤتي ملكه من يشاء .. فهو ملكه، وهو صاحب التصرف فيه، وهو يختار من عباده من يشاء..
والله واسع عليم .. ليس لفضله خازن وليس لعطائه حد. وهو الذي يعلم الخير، ويعلم كيف توضع الأمور في مواضعها..
وهي أمور من شأنها أن تصحح التصور المشوش، وأن تجلو عنه الغبش.. ولكن طبيعة إسرائيل - ونبيها يعرفها - لا تصلح لها هذه الحقائق العالية وحدها. وهم مقبلون على معركة. ولا بد لهم من خارقة ظاهرة تهز قلوبهم، وتردها إلى الثقة واليقين:
وقال لهم نبيهم: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت، فيه سكينة من ربكم، وبقية مما ترك آل موسى وآل [ ص: 268 ] هارون تحمله الملائكة. إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين
..
وكان أعداؤهم الذين شردوهم من
الأرض المقدسة - التي غلبوا عليها على يد نبيهم
يوشع بعد فترة التيه ووفاة
موسى - عليه السلام - قد سلبوا منهم مقدساتهم ممثلة في التابوت الذي يحفظون فيه مخلفات أنبيائهم من آل
موسى وآل
هارون . وقيل: كانت فيه نسخة الألواح التي أعطاها الله
لموسى على
الطور .. فجعل لهم نبيهم علامة من الله، أن تقع خارقة يشهدونها، فيأتيهم التابوت بما فيه "تحمله الملائكة" فتفيض على قلوبهم السكينة.. وقال لهم: إن هذه الآية تكفي دلالة على صدق اختيار الله
لطالوت ، إن كنتم حقا مؤمنين..
ويبدو من السياق أن هذه الخارقة قد وقعت، فانتهى القوم منها إلى اليقين.
ثم أعد
طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد، ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق..
والسياق القرآني على طريقته في سياقة القصص يترك هنا فجوة بين المشهدين. فيعرض المشهد التالي مباشرة
وطالوت خارج بالجنود:
فلما فصل طالوت بالجنود قال: إن الله مبتليكم بنهر. فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني - إلا من اغترف غرفة بيده. فشربوا منه إلا قليلا منهم ..
هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل .. إنه مقدم على معركة; ومعه جيش من أمة مغلوبة، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة. وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة. هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة. الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات ، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء.. فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه، وصموده وصبره: صموده أولا للرغبات والشهوات، وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب.. واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش. ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه، ويؤثر العافية.. وصحت فراسته:
فشربوا منه إلا قليلا منهم ..
شربوا وارتووا. فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم. انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم. وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة. والجيوش ليست بالعدد الضخم، ولكن بالقلب الصامد، والإرادة الجازمة، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق.
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي; ولا بد من التجربة العملية، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها. ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى.. بل مضى في طريقه.
[ ص: 269 ] وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش
طالوت - إلى حد - ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد:
فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ..
لقد صاروا قلة. وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته: بقيادة
جالوت . إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم. ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته. إنها التجربة الحاسمة. تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور. وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم، فاتصلت بالله قلوبهم; وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم!.
وهنا برزت الفئة المؤمنة. الفئة القليلة المختارة. والفئة ذات الموازين الربانية:
قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله. والله مع الصابرين ..
هكذا..
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة .. بهذا التكثير. فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله . القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار. ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى; ولأنها تمثل القوة الغالبة. قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين.
وهم يكلون هذا النصر لله:
بإذن الله . ويعللونه بعلته الحقيقية:
والله مع الصابرين . فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل..
ونمضي مع القصة. فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء، وتستمد قوتها كلها من إذن الله، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله، وأنه مع الصابرين.. إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة، الثابتة، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته، مع ضعفها وقلتها.. إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة. بعد أن تجدد عهدها مع الله، وتتجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده، وهي تواجه الهول الرعيب:
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبرا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء ..
هكذا..
ربنا أفرغ علينا صبرا .. وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضا من الله يفرغه عليهم فيغمرهم، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة.
وثبت أقدامنا .. فهي في يده - سبحانه - يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد.
وانصرنا على القوم الكافرين .. فقد وضح الموقف.. إيمان تجاه كفر. وحق إزاء باطل. ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين. فلا تلجلج في الضمير، ولا غبش في التصور، ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق.
وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها:
فهزموهم بإذن الله .. ويؤكد النص هذه الحقيقة:
بإذن الله . ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما. وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تجريه.. إن المؤمنين ستار القدرة ; يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما يختار.. بإذنه..
ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة; ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه.. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين.. إنه عبد الله. اختاره الله
[ ص: 270 ] لدوره. وهذه منة من الله وفضل. وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قدر الله النافذ. ثم يكرمه الله - بعد كرامة الاختيار - بفضل الثواب.. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب.. ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق.. فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد. استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص.
ويبرز السياق دور
داود :
وقتل داود جالوت ..
وداود كان فتى صغيرا من بني إسرائيل .
وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا.. ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها . وحقائقها يعلمها هو. ومقاديرها في يده وحده. فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم. ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.. وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله. فلقد قدر أن يكون
داود هو الذي يتسلم الملك بعد
طالوت ، ويرثه ابنه
سليمان ، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود:
وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ..
وكان
داود ملكا نبيا، وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى..
أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعا.. وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة، ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية ، وللإرادة المستعلية لا للكثرة العددية.. حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى.. إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات.. إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر:
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. ولكن الله ذو فضل على العالمين ..
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموار. وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس، في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات.. ومن ورائها جميعا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعا، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق، إلى الخير والصلاح والنماء، في نهاية المطاف..
لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض. ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبدا يقظة عاملة، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة.. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء.. يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة. تعرف الحق الذي بينه الله لها. وتعرف طريقها إليه واضحا. وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض. وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله
[ ص: 271 ] إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه..
وهنا يمضي الله أمره، وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا ، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه. وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة.
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر. ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة. إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار.
وفي النهاية يجيء التعقيب الأخير على القصة:
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، وإنك لمن المرسلين ..
تلك الآيات العالية المقام البعيدة الغايات
نتلوها عليك . الله - سبحانه وتعالى - هو الذي يتلوها وهو أمر هائل عظيم حين يتدبر الإنسان حقيقته العميقة الرهيبة..
نتلوها عليك بالحق .. تحمل معها الحق.
ويتلوها من يملك حق تلاوتها وتنزيلها، وجعلها دستورا للعباد. وليس هذا الحق لغير الله سبحانه. فكل من يسن للعباد منهجا غيره إنما هو مفتات على حق الله، ظالم لنفسه وللعباد، مدع ما لا يملك، مبطل لا يستحق أن يطاع. فإنما يطاع أمر الله. وأمر من يهتدي بهدى الله.. دون سواه..
وإنك لمن المرسلين ..
ومن ثم نتلو عليك هذه الآية; ونزودك بتجارب البشرية كلها في جميع أعصارها; وتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله، ونورثك ميراث المرسلين أجمعين..
بهذا ينتهي هذا الدرس القيم الحافل بذخيرة التجارب. وبهذا ينتهي هذا الجزء الذي طوف بالجماعة المسلمة في شتى المجالات وشتى الاتجاهات; وهو يربيها ويعدها للدور الخطير، الذي قدره الله لها في الأرض، وجعلها قيمة عليه، وجعلها أمة وسطا تقوم على الناس بهذا المنهج الرباني - إلى آخر الزمان.
[ ص: 272 ] انتهى الجزء الثاني
ويليه الجزء الثالث مبدوءا بقوله تعالى:
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض .