صفحة جزء
وقالوا: يا ويلنا. هذا يوم الدين ..

وبينما هم في بهتتهم وبغتتهم إذا صوت يحمل إليهم التقريع من حيث لا يتوقعون:

هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ..!

وهكذا ينتقل السياق من الخبر إلى الخطاب موجها لمن كانوا يكذبون بيوم الدين.وإن هي إلا تقريعة واحدة حاسمة، ثم يوجه الأمر إلى الموكلين بالتنفيذ:

احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم. وقفوهم إنهم مسؤولون .

احشروا الذين ظلموا ومن هم على شاكلتهم من المذنبين، فهم أزواج متشاكلون، وفي الأمر - على ما فيه من لهجة جازمة - تهكم واضح في قوله: فاهدوهم إلى صراط الجحيم . فما أعجبها من هداية خير منها الضلال، وإنها لهي الرد المكافئ لما كان منهم من ضلال عن الهدى القويم.وإذ لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم!.

وها هم أولاء قد هدوا، هدوا إلى صراط الجحيم، ووقفوا على استعداد للسؤال، وها هو ذا الخطاب يوجه إليهم بالتقريع في صورة سؤال بريء!.

ما لكم لا تناصرون؟ !.

ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا، وأنتم هنا جميعا؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر المعين؟! ومعكم آلهتكم التي كنتم تعبدون!

ولا جواب بطبيعة الحال ولا كلام! إنما يرد التعليق والتعقيب:

بل هم اليوم مستسلمون ..

عابدين، ومعبودين!!!

ثم يعود السياق مرة أخرى إلى الحكاية، ويعرض مشهدهم يجادل بعضهم بعضا:

وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قالوا: إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ..

أي كنتم توسوسون لنا عن يميننا –كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار غالبا - فأنتم مسؤولون عما نحن فيه.

وعندئذ ينبري المتهمون لتسفيه هذا الاتهام، وإلقاء التبعة على موجهيه:

قالوا: بل لم تكونوا مؤمنين ..

فلم تكن وسوستنا هي التي أغوتكم بعد إيمان، وأضلتكم بعد هدى..

وما كان لنا عليكم من سلطان ..

نرغمكم به على قبول ما نراه، ونضطركم إليه اضطرارا لا ترغبون فيه.

بل كنتم قوما طاغين ..

[ ص: 2987 ] متجاوزين للحق، ظالمين لا تقفون عند حد.

فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ..

فاستحققنا نحن وأنتم العذاب، وحق علينا الوعيد بأن نذوق العذاب.

وقد انزلقتم معنا بسبب استعدادكم للغواية، وما فعلنا بكم إلا أنكم اتبعتمونا في غوايتنا:

فأغويناكم إنا كنا غاوين ..

وهنا يرد تعليق آخر، وكأنه حكم يعلن على رءوس الأشهاد، يحمل أسبابه، ويعرض ما كان منهم في الدنيا مما حقق قول الله عليهم في الآخرة:

فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون. إنا كذلك نفعل بالمجرمين. إنهم كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون: أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون ..

ثم يكمل التعليق متوجها فيه بالتأنيب والتقبيح لقائلي هذا الكلام المرذول:

بل جاء بالحق وصدق المرسلين. إنكم لذائقو العذاب الأليم. وما تجزون إلا ما كنتم تعملون. إلا عباد الله المخلصين ..

وعلى ذكر عباد الله المخلصين - الذين استثناهم من تذوق العذاب الأليم يعرض صفحة هؤلاء العباد المخلصين في يوم الدين، ويعود العرض متبعا نسق الإخبار المصور للنعيم الذي يتقلبون في أعطافه - في مقابل ذلك العذاب الأليم للمكذبين - :

أولئك لهم رزق معلوم. فواكه وهم مكرمون. في جنات النعيم. على سرر متقابلين. يطاف عليهم بكأس من معين. بيضاء لذة للشاربين. لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون. وعندهم قاصرات الطرف عين. كأنهن بيض مكنون.. .

وهو نعيم مضاعف يجمع كل مظاهر النعيم، نعيم تستمتع به النفس ويستمتع به الحس، وتجد فيه كل نفس ما تشتهيه من ألوان النعيم.

فهم - أولا - عباد الله المخلصون، وفي هذه الإشارة أعلى مراتب التكريم، وهم - ثانيا - "مكرمون" ف الملإ الأعلى، ويا له من تكريم! ثم إن لهم "فواكه" وهم على سرر متقابلين . وهم يخدمون فلا يتكلفون شيئا من الجهد في دار الراحة والرضوان والنعيم: يطاف عليهم بكأس من معين. بيضاء لذة للشاربين. لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون .. وتلك أجمل أوصاف الشراب التي تحقق لذة الشراب وتنفي عقابيله، فلا خمار يصدع الرءوس، ولا منع ولا انقطاع يذهب بلذة المتاع!. وعندهم قاصرات الطرف عين حور حييات لا تمتد أبصارهن إلى غير أصحابهن حياء وعفة، مع أنهن "عين" واسعات جميلات العيون!وهن كذلك مصونات مع رقة ولطف ونعومة: كأنهن بيض مكنون .. لا تبتذله الأيدي ولا العيون!

ثم يمضي في الحكاية المصورة; فإذا عباد الله المخلصون هؤلاء - بعد ما يسرت لهم كل ألوان المتاع - ينعمون بسمر هادئ، يتذاكرون فيه الماضي والحاضر - وذلك في مقابل التخاصم والتلاحي الذي يقع بين المجرمين في أول المشهد - وإذا أحدهم يستعيد ماضيه، ويقص على إخوانه طرفا مما وقع له:

قال قائل منهم: إني كان لي قرين. يقول: أإنك لمن المصدقين. أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون؟ ..

لقد كان صاحبه وقرينه ذاك يكذب باليوم الآخر، ويسائله في دهشة: أهو من المصدقين بأنهم مبعوثون [ ص: 2988 ] فمحاسبون بعد إذ هم تراب وعظام؟!

وبينما هو ماض في قصته يعرضها في سمره مع إخوانه، يخطر له أن يتفقد صاحبه وقرينه ذاك ليعرف مصيره، وهو يعرف بطبيعة الحال أنه قد صار إلى الجحيم، فيتطلع ويدعو إخوانه إلى التطلع معه:

قال: هل أنتم مطلعون؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم ..

عندئذ يتوجه إلى قرينه الذي وجده في وسط الجحيم، يتوجه إليه ليقول له: يا هذا، لقد كدت توردني موارد الردى بوسوستك، لولا أن الله قد أنعم علي، فعصمني من الاستماع إليك:

قال: تالله إن كدت لتردين. ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ..

أي لكنت من الذين يساقون إلى الموقف وهم كارهون.

وتثير رؤيته لقرينه في سواء الجحيم شعوره بجزالة النعمة التي نالها هو وإخوانه من عباد الله المخلصين، فيحب أن يؤكدها ويستعرضها، ويطمئن إلى دوامها، تلذذا بها وزيادة في المتاع بها فيقول:

أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى؟ وما نحن بمعذبين؟ إن هذا لهو الفوز العظيم ..

وهنا يرد تعليق يوقظ القلوب ويوجهها إلى العمل والتسابق لمثل هذا المصير:

لمثل هذا انعيم الذي لا يدركه فوت، ولا يخشى عليه من نفاد، ولا يعقبه موت، ولا يتهدده العذاب، لمثل هذا فليعمل العاملون، فهذا هو الذي يستحق الاحتفال، وما عداه مما ينفق فيه الناس أعمارهم على الأرض زهيد زهيد حين يقاس إلى هذا الخلود.

ولكي يتضح الفارق الهائل بين هذا النعيم الخالد الآمن الدائم الراضي; والمصير الآخر الذي ينتظر الفريق الآخر، فإن السياق يستطرد إلى ما ينتظر هذا الفريق بعد موقف الحشر والحساب الذي ورد في مطلع المشهد الفريد:

أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم! إنا جعلناها فتنة للظالمين. إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رءوس الشياطين. فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون. ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم. ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ..

أذلك النعيم المقيم خير منزلا ومقاما أم شجرة الزقوم؟.

وما شجرة الزقوم؟

إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رءوس الشياطين ..

والناس لا يعرفون رءوس الشياطين كيف تكون! ولكنها مفزعة ولا شك، ومجرد تصورها يثير الفزع والرعب.

فكيف إذا كانت طلعا يأكلونه ويملئون منه البطون؟!.

لقد جعل الله هذه الشجرة فتنة للظالمين، فحين سمعوا باسمها سخروا وقالوا: كيف تنبت شجرة في الجحيم ولا تحترق، وقال قائل منهم هو أبو جهل ابن هشام يسخر ويتفكه: "يا معشر قريش ، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد ؟ قالوا: لا، قال: عجوة يثرب بالزبد! والله لئن استمكنا منها لنزقمنها تزقما!" ولكن شجرة الزقوم هذه شيء آخر غير ذلك الطعام الذي كانوا يعرفون!.

فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ..

فإذا شاكت حلوقهم وهي كرءوس الشياطين - وحرقت بطونهم - وهي تنبت في أصل الجحيم ولاتحترق [ ص: 2989 ] لأنها من نوع الجحيم! وتطلعوا إلى برد الشراب ينقع الغلة ويطفئ اللهيب، فإنهم لشاربون عليها ماء ساخنا مشوبا غير خالص: ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم ..

وبعد هذه الوجبة يغادرون تلك المائدة عائدين إلى مقرهم المقيم، ويا له من نزل! ويا له من معاد!.

ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ..

بذلك يختم المشهد الفريد، وينتهي الشوط الأول من السورة، وكأنما كان قطعة من الواقع المشهود.

التالي السابق


الخدمات العلمية