صفحة جزء
ومع النبوة والملك آتاه الله من فضله قلبا ذاكرا وصوتا رخيما، يرجع به تراتيله التي يمجد فيها ربه. وبلغ من قوة استغراقه في الذكر، ومن حسن حظه في الترتيل، أن تزول الحواجز بين كيانه وكيان هذا الكون. وتتصل حقيقته بحقيقة الجبال والطير في صلتها كلها ببارئها، وتمجيدها له وعبادتها. فإذا الجبال تسبح معه، وإذا الطير مجموعة عليه، تسبح معه لمولاها ومولاه:

إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. والطير محشورة كل له أواب ..

ولقد يقف الناس مدهوشين أمام هذا النبأ.. الجبال الجامدة تسبح مع داود بالعشي والإشراق، حينما يخلو إلى ربه، يرتل ترانيمه في تمجيده وذكره. والطير تتجمع على نغماته لتسمع له وترجع معه أناشيده.. لقد يقف الناس مدهوشين للنبأ، إذ يخالف مألوفهم، ويخالف ما اعتادوا أن يحسوه من العزلة بين جنس الإنسان، وجنس الطير، وجنس الجبال!

ولكن فيم الدهش؟ وفيم العجب؟ إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة. وراء تميز الأجناس والأشكال والصفات والسمات.. حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارئ الوجود كله: أحيائه وأشيائه جميعا. وحين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوص والإشراق والصفاء، فإن تلك الحاجز تنزاح; وتنساح الحقيقة المجردة لكل منهم. فتتصل من وراء حواجز الجنس والشكل والصفة والسمة التي تميزهم وتعزلهم في مألوف الحياة!

وقد وهب الله عبده داود هذه الخاصية وسخر الجبال معه يسبحنب العشي والإشراق. وحشر عليه الطير ترجع مع ترانيمه تسبيحا لله. وكانت هذه هبة فوق الملك والسلطان، مع النبوة والاستخلاص.

وشددنا ملكه. وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ..

فكان ملكه قويا عزيزا. وكان يسوسه بالحكمة والحزم جميعا. وفصل الخطاب قطعه والجزم فيه برأي لا تردد فيه. وذلك مع الحكمة ومع القوة غاية الكمال في الحكم والسلطان في عالم الإنسان.

ومع هذا كله فقد تعرض داود للفتنة والابتلاء وكانت عين الله عليه لترعاه وتقود خطاه، وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه، وتوقيه خطر الطريق وتعلمه كيف يتوقاه:

وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب؟ إذ دخلوا على داود ففزع منهم. قالوا: لا تخف. خصمان بغى بعضنا على بعض. فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط. واهدنا إلى سواء الصراط. إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال: أكفلنيها، وعزني في الخطاب. قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات - وقليل ما هم - وظن داود أنما فتناه. فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ..

[ ص: 3018 ] وبيان هذه الفتنة أن داود النبي الملك، كان يخصص بعض وقته للتصرف في شؤون الملك، وللقضاء بين الناس. ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحا لله في المحراب. وكان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس.

وفي ذات يوم فوجئ بشخصين يتسوران المحراب المغلق عليه. ففزع منهم. فما يتسور المحراب هكذا مؤمن ولا أمين! فبادرا يطمئنانه. قالوا: لا تخف. خصمان بغى بعضنا على بعض . وجئنا للتقاضي أمامك فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط . وبدأ أحدهما فعرض خصومته: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة. فقال: أكفلنيها (أي اجعلها لي وفي ملكي وكفالتي) وعزني في الخطاب (أي شدد علي في القول وأغلظ) .

والقضية - كما عرضها أحد الخصمين - تحمل ظلما صارخا مثيرا لا يحتمل التأويل. ومن ثم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة; ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثا، ولم يطلب إليه بيانا، ولم يسمع له حجة. ولكنه مضى يحكم: قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. وإن كثيرا من الخلطاء - (أي الأقوياء المخالطين بعضهم لبعض) - ليبغي بعضهم على بعض. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ..

ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان: فقد كانا ملكين جاءا للامتحان! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس، ليقضي بينهم بالحق والعدل، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم. وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة.. ولكن القاضي عليه ألا يستثار، وعليه ألا يتعجل. وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد. قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته فقد يتغير وجه المسألة كله، أو بعضه، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعا أو كاذبا أو ناقصا!

عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء:

وظن داود أنما فتناه ..

وهنا أدركته طبيعته.. إنه أواب.. فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ..

فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب .. وخاضت بعض التفاسير مع الإسرائيليات حول هذه الفتنة خوضا كبيرا. تتنزه عنه طبيعة النبوة. ولا يتفق إطلاقا مع حقيقتها. حتى الروايات التي حاولت تخفيف تلك الأساطير سارت معها شوطا. وهي لا تصلح للنظر من الأساس. ولا تتفق مع قول الله تعالى: وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ..

والتعقيب القرآني الذي جاء بعد القصة يكشف كذلك عن طبيعة الفتنة; ويحدد التوجيه المقصود بها من الله لعبده الذي ولاه القضاء والحكم بين الناس:

يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق. ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد. بما نسوا يوم الحساب ..

فهي الخلافة في الأرض، والحكم بين الناس بالحق، وعدم اتباع الهوى. واتباع الهوى - فيما يختص بنبي - هو السير مع الانفعال الأول، وعدم التريث والتثبيت والتبيين.. مما ينتهي مع الاستطراد فيه إلى الضلال. أما عقب الآية المصور لعاقبة الضلال فهو حكم عام مطلق على نتائج الضلال عن سبيل الله. وهو نسيان الله والتعرض للعذاب الشديد يوم الحساب.

[ ص: 3019 ] ومن رعاية الله لعبده داود، أنه نبهه عند أول لفتة. ورده عند أول اندفاعة. وحذره النهاية البعيدة. وهو لم يخط إليها خطوة! وذلك فضل الله على المختارين من عباده. فهم ببشريتهم قد تعثر أقدامهم أقل عثرة، فيقيلها الله، ويأخذ بيدهم، ويعلمهم، ويوفقهم إلى الإنابة، ويغفر لهم، ويغدق عليهم، بعد الابتلاء..

وعند تقرير مبدإ الحق في خلافة الأرض، وفي الحكم بين الناس.. وقبل أن تمضي قصة داود إلى نهايتها في السياق.. يرد هذا الحق إلى أصله الكبير. أصله الذي تقوم عليه السماء والأرض وما بينهما. أصله العريق في كيان هذا الكون كله. وهو أشمل من خلافة الأرض، ومن الحكم بين الناس. وهو أكبر من هذه الأرض. كما أنه أبعد مدى من الحياة الدنيا. إذ يتناول صميم الكون كما يتناول الحياة الآخرة. ومنه وعليه جاءت الرسالة الأخيرة، وجاء الكتاب المفسر لذلك الحق الشامل الكبير:

وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا. ذلك ظن الذين كفروا. فويل للذين كفروا من النار. أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض؟ أم نجعل المتقين كالفجار؟ كتاب أنزلناه إليك مبارك، ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب ..

وهكذا: في هذه الآيات الثلاث، تتقرر تلك الحقيقة الضخمة الهائلة الشاملة الدقيقة العميقة. بكل جوانبها وفروعها وحلقاتها..

إن خلق السماء والأرض وما بينهما لم يكن باطلا، ولم يقم على الباطل. إنما كان حقا وقام على الحق. ومن هذا الحق الكبير تتفرع سائر الحقوق. الحق في خلافة الأرض. والحق في الحكم بين الخلق. والحق في تقويم مشاعر الناس وأعمالهم فلا يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض;ولا يكون وزن المتقين كوزن الفجار. والحق الذي جاء به الكتاب المبارك الذي أنزله الله ليتدبروا آياته وليتذكر أصحاب العقول ما ينبغي أن يتذكروه من هذه الحقائق الأصيلة، التي لا يتصورها الكافرون، لأن فطرتهم لا تتصل بالحق الأصيل في بناء هذا الكون، ومن ثم يسوء ظنهم بربهم ولا يدركون من أصالة الحق شيئا.. ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ..

إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون. وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس. وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض والحكام بين الناس إنما هو طرف من الحق الكلي، لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف. وإن الانحراف عن شريعة الله والحق في الخلافة والعدل في الحكم إنما هو انحراف عن الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والأرض; وهو أمر عظيم إذن، وشر كبير، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة لا بد أن يتحطم في النهاية ويزهق. فما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله وناموس الكون وطبيعة الوجود.. ما يمكن أن يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة!

وهذا ما ينبغي أن يتدبره المتدبرون وأن يتذكره أولو الألباب..

وبعد هذا التعقيب المعترض في صلب القصة لكشف تلك الحقيقة الضخمة، يمضي السياق يعرض نعمة الله على داود في عقبه وولده سليمان; وما وهبه الله من ألوان الإنعام والإفضال. كما يعرض فتنته وابتلاءه ورعاية الله له، وإغداقه عليه بعد الفتنة والابتلاء:

[ ص: 3020 ] ووهبنا لداود سليمان. نعم العبد. إنه أواب. إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد. فقال: إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب. ردوها علي. فطفق مسحا بالسوق والأعناق. ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب. قال: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، إنك أنت الوهاب. فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب. والشياطين كل بناء وغواص. وآخرين مقرنين في الأصفاد. هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب. وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ..

والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة. وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان.. كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما. فهي إما إسرائيليات منكرة، وإما تأويلات لا سند لها. ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصورا يطمئن إليه قلبي، فأصوره هنا وأحكيه. ولم أجد أثرا صحيحا أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح. صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة. هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعا. ونصه: " قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. ولم يقل: إن شاء الله. فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفسي بيده، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون " .. وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق. ولكن هذا مجرد احتمال.. أما قصة الخيل فقيل: إن سليمان - عليه السلام - استعرض خيلا له بالعشي. ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب. فقال ردوها علي. فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه. ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراما لها لأنها كانت خيلا في سبيل الله.. وكلتا الروايتين لا دليل عليها. ويصعب الجزم بشيء عنها.

ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئا عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن.

وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان - عليه السلام - في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله أنبياءه ليوجههم ويرشدهم، ويبعد خطاهم عن الزلل. وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع، وطلب المغفرة; واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء:

قال: رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ..

وأقرب تأويل لهذا الطلب من سليمان - عليه السلام - أنه لم يرد به أثرة. إنما أراد الاختصاص الذي يتجلى في صورة معجزة. فقد أراد به النوع. أراد به ملكا ذا خصوصية تميزه من كل ملك آخر يأتي بعده.وذا طبيعة معينة ليست مكررة ولا معهودة في الملك الذي يعرفه الناس.

التالي السابق


الخدمات العلمية