وقد استجاب له ربه، فأعطاه فوق الملك المعهود، ملكا خاصا لا يتكرر:
فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب. والشياطين كل بناء وغواص. وآخرين مقرنين في الأصفاد .
وتسخير الريح لعبد من عباد الله بإذن الله; لا يخرج في طبيعته عن تسخير الريح لإرادة الله. وهي مسخرة لإرادته تعالى ولا شك، تجري بأمره وفق نواميسه فإذا يسر الله لعبد من عباده في فترة من الفترات أن يعبر عن إرادة الله سبحانه وأن يوافق أمره أمر الله فيها; وأن تجري الريح رخاء حيث أراد فذلك أمر ليس على الله بمستبعد. ومثله يقع في صور شتى. والله سبحانه يقول في القرآن للرسول - صلى الله عليه وسلم -
لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم، ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ..
[ ص: 3021 ] فما معنى هذا؟ معناه أنهم إذا لم ينتهوا فستتجه إرادتنا إلى تسليطك عليهم وإخراجهم من
المدينة. وسيتم هذا بتوجيه إرادتك أنت ورغبتك إلى قتالهم وإخراجهم; فتتم إرادتنا بهم عن طريقك. فهذا لون من توافق أمر الله - سبحانه - وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإرادة الله وأمره هما الأصيلان. وهما يتجليان في إرادة الرسول وأمره وفق ما أراد الله. وهذا يقرب إلينا معنى تسخير الريح لأمر
سليمان - عليه السلام - تسخيرها لأمره المطابق لأمر الله في توجيه هذه الرياح، الممثل لأمر الله المعبر عنه على كل حال.
كذلك سخر له الشياطين لتبني له ما يشاء; وتغوص له في البحر والأرض في طلب ما يشاء. وأعطاه السلطة لعقاب المخالفين والمفسدين ممن سخرهم له وتكبيلهم بالأصفاد مقرونة أيديهم إلى أرجلهم. أو مقرنين اثنين اثنين أو أكثر في القيود عند الاقتضاء.
ثم قيل له: إنك مطلق اليد فيما وهب الله لك من سلطة ومن نعمة. تعطي من تشاء كيف تشاء. وتمسك عمن تشاء قدر ما تشاء:
هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ..
وذلك زيادة في الإكرام والمنة. ثم زاد على هذا كله أن له عند ربه قربى في الدنيا وحسن مآب في الآخرة:
وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ..
وتلك درجة عظيمة من الرعاية والرضى والإنعام والتكريم.
ثم نمضي مع قصة الابتلاء والصبر، والإنعام بعد ذلك والإفضال. نمضي في السياق مع قصة
أيوب: واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب. اركض برجلك. هذا مغتسل بارد وشراب. ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب. وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث، إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ..
وقصة ابتلاء
أيوب وصبره ذائعة مشهورة; وهي تضرب مثلا للابتلاء والصبر. ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها. والحد المأمون في هذه القصة هو أن
أيوب - عليه السلام - كان كما جاء في القرآن عبدا صالحا أوابا; وقد ابتلاه الله فصبر صبرا جميلا، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعا ولكنه ظل على صلته بربه، وثقته به، ورضاه بما قسم له.
وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له - ومنهم زوجته - بأن الله لو كان يحب
أيوب ما ابتلاه. وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربنها عددا عينه - قيل مائة.
وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان، ومداخله إلى نفوس خلصائه، ووقع هذا الإيذاء في نفسه:
أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ..
فلما عرف ربه منه صدقه وصبره، ونفوره من محاولات الشيطان، وتأذيه بها، أدركه برحمته. وأنهى ابتلاءه، ورد عليه عافيته.. إذ أمره أن يضرب الأرض بقدمه فتتفجر عين باردة يغتسل منها ويشرب فيشفى ويبرأ:
اركض برجلك. هذا مغتسل بارد وشراب ..
[ ص: 3022 ] ويقول القرآن الكريم:
ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ..
وتقول بعض الروايات: إن الله أحيا له أبناءه ووهب له مثلهم، وليس في النص ما يحتم أنه أحيا له من مات. وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين. وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية. مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدراك.
والمهم في معرض القصص هنا هو تصوير رحمة الله وفضله على عباده الذين يبتليهم فيصبرون على بلائه وترضى نفوسهم بقضائه.
فأما قسمه ليضربن زوجه. فرحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته وصبرت على بلائه وبلائها به، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده. فيضربها به ضربة واحدة. تجزئ عن يمينه، فلا يحنث فيها:
وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ..
هذا التيسير، وذلك الإنعام، كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء:
إنا وجدناه صابرا، نعم العبد، إنه أواب ..
وبعد عرض هذه القصص الثلاثة بشيء من التفصيل; ليذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويصبر على ما يلاقيه. يجمل السياق الإشارة إلى مجموعة من الرسل. في قصصهم من البلاء والصبر، ومن الإنعام والإفضال، ما في قصص
داود وسليمان وأيوب - عليهم السلام - ومنهم سابقون على هؤلاء معروف زمانهم. ومنهم من لا نعرف زمانه، لأن القرآن والمصادر المؤكدة لدينا لم تحدده:
واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار. إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار. وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار. واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار.. ..
وإبراهيم وإسحاق ويعقوب - وكذلك
إسماعيل - كانوا قبل
داود وسليمان قطعا. ولكن لا نعرف أين هم من زمان
أيوب. وكذلك
اليسع وذو الكفل. ولم يرد عنهما في القرآن إلا إشارات سريعة. وهناك نبي من أنبياء بني إسرائيل اسمه بالعبرية: " إليشع " وهو
اليسع بالعربية على وجه الترجيح. فأما
ذو الكفل فلا نعرف عنه شيئا إلا صفته هذه
من الأخيار ..
ويصف الله سبحانه:
إبراهيم وإسحاق ويعقوب، بأنهم
أولي الأيدي والأبصار .. كناية عن العمل الصالح بالأيدي والنظر الصائب أو الفكر السديد بالأبصار. وكأن من لا يعمل صالحا لا يد له. ومن لا يفكر تفكيرا سليما لا عقل له أو لا نظر له!
كما يذكر من صفتهم التكريمية أن الله أخلصهم بصفة خاصة ليذكروا الدار الآخرة، ويتجردوا من كل شيء سواها:
إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار .. فهذه ميزتهم ورفعتهم. وهذه جعلتهم عند الله مختارين أخيارا:
وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ..
وكذلك يشهد الله - سبحانه -
لإسماعيل واليسع وذي الكفل أنهم من الأخيار. ويوجه خاتم أنبيائه وخير
[ ص: 3023 ] رسله - صلى الله عليه وسلم - ليذكرهم ويعيش بهم، ويتأمل صبرهم ورحمة الله بهم. ويصبر على ما يلقاه من قومه المكذبين الضالين. فالصبر هو طريق الرسالات. وطريق الدعوات. والله لا يدع عباده الصابرين حتى يعوضهم من صبرهم خيرا ورحمة وبركة واصطفاء.. وما عند الله خير. وهان كيد الكائدين وتكذيب المكذبين إلى جانب رحمة الله ورعايته وإنعامه وإفضاله..