[ ص: 3064 ] (40)
سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1)
تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم (2)
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير (3)
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد (4)
كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب (5)
وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار (6)
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (7)
ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم (8)
وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم (9)
إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون (10)
قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل (11)
ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير (12)
هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب (13)
فادعوا الله مخلصين [ ص: 3065 ] له الدين ولو كره الكافرون (14)
رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر .يوم التلاق (15)
يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (16)
اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب (17)
وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع (18)
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (19)
والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير (20)
هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل. قضية الإيمان والكفر. قضية الدعوة والتكذيب وأخيرا قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخذ العالين المتجبرين.. وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم، واستغفار الملائكة لهم، واستجابة الله لدعائهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.
وجو السورة كله - من ثم - كأنه جو معركة. وهي المعركة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين!
ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة - وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر - وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.
ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص:
غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب. ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير .. فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع، مستقرة المقاطع، ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي!
كذلك نجد كلمة البأس. وبأس الله. وبأسنا.. مكررة تتردد في مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها.
وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين. وقد ترق أحيانا فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية.
[ ص: 3066 ] ونضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة وظلها من هذه وتلك..
من مصارع الغابرين:
كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق. فأخذتهم. فكيف كان عقاب؟ ..
أولم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم، كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض، فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق. ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا، فأخذهم الله، إنه قوي شديد العقاب ..
ومن مشاهد القيامة:
وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين. ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ..
الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون..
ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب:
الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا. ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته. وذلك هو الفوز العظيم ..
ومن اللمسات الموحية عرض آيات الله في الأنفس وفي الآفاق:
هو الذي خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم يخرجكم طفلا، ثم لتبلغوا أشدكم، ثم لتكونوا شيوخا. ومنكم من يتوفى من قبل، ولتبلغوا أجلا مسمى، ولعلكم تعقلون. هو الذي يحيي ويميت. فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ..
الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا. إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. ذلكم الله ربكم خالق كل شيء. لا إله إلا هو فأنى تؤفكون؟ ..
الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم. ورزقكم من الطيبات. ذلكم الله ربكم. فتبارك الله رب العالمين .
وهذه وتلك تصور جو السورة وترسم ظلها، وتتناسق مع موضوعها وطابعها.
ويجري سياق السورة بموضوعاتها في أربعة أشواط متميزة.
يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة:
حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم تتلوها تلك الإيقاعات الرصينة الثابتة:
غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير .. ثم تقرر أن الوجود كله مسلم مستسلم لله. وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذون عن سائر الوجود بهذا الجدال. ومن ثم فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهما تقلبوا في الخير والمتاع. فإنما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذبين قبلهم; وقد أخذهم الله أخذا بعقاب يستحق العجب والإعجاب! ومع الأخذ في الدنيا فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك.. ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربهم، ويتوجهون إليه بالعبادة، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح.. وفي الوقت ذاته يعرض مشهد الكافرين يوم القيامة وهم ينادون من أرجاء الوجود المؤمن المسلم المستسلم:
لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ..
وهم في موقف الذلة والانكسار بعد الاستكبار، يقرون بذنبهم، ويعترفون بربهم، فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار،
[ ص: 3067 ] إنما يذكرون بما كان منهم من شرك واستكبار.. ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة يعود بالناس إلى الله في الدنيا..
هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا ويذكرهم لينيبوا إلى ربهم ويوحدوه:
فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون . ويشير إلى الوحي والإنذار بذلك اليوم العصيب. ويستطرد إلى مشهدهم يوم القيامة:
يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء وقد توارى الجبارون والمتكبرون والمجادلون:
لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار . ويستمر في عرض صور من هذا اليوم الذي يتفرد الله جل جلاله فيه بالحكم والقضاء. ويتوارى فيه ويضمحل ما يعبدون من دونه، كما يتوارى الطغاة والفجار..
ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم. مقدمة لعرض جانب من قصة
موسى - عليه السلام - مع
فرعون وهامان وقارون. تمثل موقف الطغيان من دعوة الحق. وتعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة
موسى من قبل، ولا تعرض إلا في هذه السورة. وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل
فرعون يكتم إيمانه. يدفع عن
موسى ما هموا بقتله; ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر، ثم في صراحة ووضوح في النهاية. ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة; ويحذرهم يوم القيامة، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر; ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من
يوسف - عليه السلام - ورسالته.. ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة. فإذا هم هناك. وإذا هم يتحاجون في النار. وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا، وحوار لهم جميعا مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص. ولات حين خلاص! وفي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق، والتوجه إلى إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.
فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر. ويوجه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله، وهو أكبر من الناس جميعا. لعل المتكبرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله; وتتفتح بصيرتهم فلا يكونون عميا:
وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء. قليلا ما تتذكرون . ويذكرهم بمجيء الساعة، ويوجههم إلى دعوة الله الذي يستجيب للدعاء. فأما الذين يستكبرون فسيدخلون جهنم أذلاء صاغرين. ويعرض في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين. يعرض الليل سكنا والنهار مبصرا. والأرض قرارا والسماء بناء. ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم فأحسن صورهم. ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين. ويلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبرأ من عبادتهم، ويعلن نهي ربه له عن آلهتهم، وأمره له بالإسلام لرب العالمين. ويلمس قلوبهم بأن الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة.. وهو الذي يحيي ويميت. ثم يعود فيعجب رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر الذين يجادلون في الله; وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف:
إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون .. وإذ يتخلى عنهم ما أشركوا وينكرون هم أنهم كانوا يعبدون شيئا! وينتهي بهم الأمر إلى جهنم يقال لهم:
ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين .. وعلى ضوء هذا المشهد يوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى، والثقة بأن وعد الله حق. سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه. فسيتم الوعد هناك..