ونقف وقفات سريعة أمام النصوص القرآنية:
الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ..
إن السكون بالليل ضرورة لكل حي. ولا بد من فترة من الظلام تسكن فيه الخلايا الحية وتستكن لتزاول نشاطها في النور. ولا يكفي مجرد النوم لتوفير هذا السكون. بل لا بد من ليل. لا بد من ظلام. فالخلية الحية التي تتعرض لضوء مستمر تصل إلى حد من الإجهاد تتلف معه أنسجتها لأنها لم تتمتع بقسط ضروري لها من السكون.
[ ص: 3094 ] والنهار مبصرا .. والتعبير على هذا النحو تعبير مصور مشخص. وكأنما النهار حي يبصر ويرى. وإنما الناس هم الذين يبصرون فيه. لأن هذه هي الصفة الغالبة..
وتقلب الليل والنهار على هذا النحو نعمة في طيها نعم. ولو كان أحدهما سرمدا. بل لو كان أطول مما هو مرات معدودة لانعدمت الحياة. فلا عجب أن يقرن توالي الليل والنهار بذكر الفضل الذي لا يشكره أكثر الناس:
إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ..
ويعقب على هاتين الظاهرتين الكونيتين، بأن الذي خلقهما هو الذي يكون إلها يستحق هذا الاسم العظيم:
ذلكم الله ربكم خالق كل شيء، لا إله إلا هو، فأنى تؤفكون؟ ..
وإنه لعجيب يستحق التعجيب أن يرى الناس يد الله في كل شيء، ويعلموا أنه الخالق لكل شيء معرفة حتمية مفروضة على العقل فرضا بحكم وجود الأشياء، واستحالة ادعاء أحد أنها من خلقه، وعدم استقامة القول بأنها وجدت من غير موجد. عجيب يستحق التعجيب أن يكون هذا كله، ثم يصرف الناس عن الإيمان والإقرار..
فأنى تؤفكون؟ ..
ولكنه هكذا يصرف ناس عن هذا الحق الواضح. هكذا كما يقع من المخاطبين الأولين بالقرآن. كذلك كان في كل زمان; بلا سبب ولا حجة ولا برهان:
كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون ..
وينتقل من ظاهرتي الليل والنهار، إلى تصميم الأرض لتكون قرارا، والسماء لتكون بناء:
الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء ..
والأرض قرار صالح لحياة الإنسان بتلك الموافقات الكثيرة التي أشرنا إلى بعضها إجمالا. والسماء بناء ثابت النسب والأبعاد والحركات والدورات ومن ثم تضمن الاستقرار والثبات لحياة هذا الإنسان، المحسوب حسابها في تصميم هذا الوجود، المقدرة في بنائه تقديرا..
ويربط بتكوين السماء والأرض تكوين الإنسان ورزقه من الطيبات على النحو الذي أشرنا إلى بعض أسراره:
وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ..
ويعقب على هذه الآيات والهبات كما عقب على الأولى:
ذلكم الله ربكم. فتبارك الله رب العالمين ..
ذلكم الذي يخلق ويقدر ويدبر، ويراعيكم ويقدر لكم مكانا في ملكه.. ذلكم الله ربكم.
فتبارك الله .. وعظمت بركته وتضاعفت.
رب العالمين .. أجمعين.
هو الحي ..
أجل. هو وحده الحي. الحي حياة ذاتية غير مكسوبة ولا مخلوقة. وغير مبتدئة ولا منتهية. وغير حائلة ولا زائلة. وغير متقلبة ولا متغيرة. وما من شيء له هذه الصفة من الحياة. سبحانه هو المتفرد بالحياة.
وهو المتفرد بالألوهية. بما أنه المتفرد بالحياة. فالحي الواحد هو الله:
لا إله إلا هو ..
[ ص: 3095 ] ومن ثم..
فادعوه مخلصين له الدين .. واحمدوه في الدعاء:
الحمد لله رب العالمين ..
وأمام هذه الآيات والهبات، وما تلاها من تعقيبات، وفي أشد اللحظات امتلاء بحقيقة الوحدانية، وحقيقة الألوهية. وحقيقة الربوبية. يجيء التلقين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعلن للقوم أنه منهي عن عبادة ما يدعون من دون الله، مأمور بالإسلام لله رب العالمين:
قل: إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله، لما جاءني البينات من ربي، وأمرت أن أسلم لرب العالمين ..
أعلن لهؤلاء الذين يصرفون عن آيات الله ويجحدون هباته، أنك نهيت عن عبادة ما يدعون من دون الله. وقل لهم: إنني نهيت وانتهيت
لما جاءني البينات من ربي فعندي بينة، وأنا بها مؤمن، ومن حق هذه البينة أن أقتنع بها وأصدق، ثم أعلن كلمة الحق.. ومع الانتهاء عن عبادة غير الله - وهو سلب - الإسلام لرب العالمين - وهو إيجاب - ومن الشقين تتكامل العقيدة.
ثم يستعرض آية من آيات الله في أنفسهم بعد ما استعرض آياته في الآفاق. هي آية الحياة الإنسانية وأطوارها العجيبة; وليتخذ من هذه الحياة مقدمة لتقرير حقيقة الحياة كلها بين يدي الله:
هو الذي خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم يخرجكم طفلا، ثم لتبلغوا أشدكم، ثم لتكونوا شيوخا، ومنكم من يتوفى من قبل، ولتبلغوا أجلا مسمى، ولعلكم تعقلون. هو الذي يحيي ويميت، فإذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن. فيكون ..
وهذه النشأة الإنسانية فيها ما لم يدركه علم الإنسان، لأنه كان قبل وجود الإنسان. وفيها ما يشاهده ويراقبه. ولكن هذا إنما تم حديثا بعد نزول هذا القرآن بقرون!
فخلق الإنسان من تراب حقيقة سابقة على وجود الإنسان. والتراب أصل الحياة كلها على وجه هذه الأرض. ومنها الحياة الإنسانية. ولا يعلم إلا الله كيف تمت هذه الخارقة، ولا كيف تم هذا الحادث الضخم في تاريخ الأرض وتاريخ الحياة. وأما تكاثر الإنسان بعد ذلك عن طريق التزاوج فيتم عن طريق التقاء خلية التذكير وهي النطفة بالبويضة، واتحادهما، واستقرارهما في الرحم في صورة علقة.. وفي نهاية المرحلة الجنينية يخرج الطفل بعد عدة تطورات كبرى في طبيعة الخلية الأولى، تعد إذا نحن نظرنا إليها بتدبر أطول وأكبر من الأطوار التي يمر بها الطفل من ولادته إلى أن ينتهي أجله، والتي يقف السياق عند بعض مراحلها البارزة: مرحلة الطفولة. ثم بلوغ الأشد حوالي الثلاثين. ثم الشيخوخة. وهي المراحل التي تمثل أقصى القوة بين طرفين من الضعف.
ومنكم من يتوفى من قبل أن يبلغ هذه المراحل جميعا أو بعضها.
ولتبلغوا أجلا مسمى مقدرا معلوما لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون.
ولعلكم تعقلون .. فمتابعة رحلة الجنين. ورحلة الوليد. وتدبر ما تشيران إليه من حسن الخلق والتقدير، مم للعقل فيه دور كبير..
ورحلة الجنين رحلة عجيبة ممتعة حقا. وقد عرفنا الكثير عنها بعد تقدم الطب وعلم الأجنة بشكل خاص. ولكن إشارة القرآن إليها بهذه الدقة منذ حوالي أربعة عشر قرنا أمر يستوقف النظر. ولا يمكن أن يمر عليه عاقل دون أن يقف أمامه يتدبره ويفكر فيه.
ورحلة الجنين ورحلة الطفل كلتاهما توقع على الحس البشري وتلمس القلب الإنساني في أي بيئة وفي أي
[ ص: 3096 ] مرحلة من مراحل الرشد العقلي. وكل جيل يحس لهذه اللمسة وقعها على طريقته وحسب معلوماته. فيخاطب القرآن بها جميع أجيال البشر.. فيحسون.. ثم يستجيبون أو لا يستجيبون!
وهو يعقب عليها بعرض حقيقة الإحياء والإماتة. وحقيقة الخلق والإنشاء جميعا:
هو الذي يحيي ويميت. فإذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن. فيكون ..
وتكثر الإشارة في القرآن إلى آيتي الحياة والموت. لأنهما تلمسان قلب الإنسان بشدة وعمق. ثم لأنهما الظاهرتان البارزتان المكررتان في كل ما يقععليه حس الإنسان. وللإحياء والإماتة مدلول أكبر مما يبدو لأول مرة.
فالحياة ألوان. والموت ألوان. وإن رؤية الأرض الميتة. ثم رؤيتها تنبض بالحياة. ورؤية الشجرة الجافة الأوراق والأغصان في موسم، ثم رؤيتها والحياة تنبثق منها في كل موضع، وتخضر وتورق وتزهر، كما لو كانت الحياة تتفجر منها وتفيض. ورؤية البيضة.. ثم الفرخ. ورؤية البذرة ثم النبتة.. وعكس هذه الرحلة.. من الحياة إلى الموت، كالرحلة من الموت إلى الحياة.. كلها تلمس القلب وتستجيشه إلى قدر من التأثر والتدبر يختلف باختلاف النفوس والحالات.
ومن الحياة والموت إلى حقيقة الإنشاء وأداة الإبداع. وإن هي إلا الإرادة يتمثل اتجاهها إلى الخلق. خلق أي شيء. في كلمة " كن " .. فإذا الوجود ينبثق على إثرها " فيكون " فتبارك الله أحسن الخالقين..
وأمام نشأة الحياة البشرية. وفي ظل مشهد الحياة والموت. وحقيقة الإنشاء والإبداع.. يبدو الجدال في آيات الله مستغربا مستنكرا; ويبدو التكذيب بالرسل عجيبا نكيرا. ومن ثم يواجهه بالتهديد المخيف في صورة مشهد من مشاهد القيامة العنيفة:
ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون؟ الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون. إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، في الحميم ثم في النار يسجرون. ثم قيل لهم: أين ما كنتم تشركون من دون الله؟ قالوا: ضلوا عنا، بل لم نكن ندعو من قبل شيئا. كذلك يضل الله الكافرين. ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تمرحون. ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها. فبئس مثوى المتكبرين ..
إنه التعجيب من أمر الذين يجادلون في آيات الله، في ظل استعراض هذه الآيات. مقدمة لبيان ما ينتظرهم هناك!
ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون؟ ..
الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا ..
وهم كذبوا كتابا واحدا. ورسولا واحدا. ولكنهم إنما يكذبون بهذا كل ما جاء به الرسل. فهي عقيدة واحدة، تتمثل في أكمل صورها في الرسالة الأخيرة. ومن ثم فهم كذبوا بكل رسالة وبكل رسول.. كل مكذب في القديم والحديث صنع هذا حين كذب رسوله الذي جاءه بالحق الواحد وبعقيدة التوحيد.
فسوف يعلمون ..
ثم يعرض ماذا سوف يعلمون..
إنه الإهانة والتحقير في العذاب. لا مجرد العذاب.
إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ..
[ ص: 3097 ] بهذه المهانة كما تسحب الأنعام والوحوش! وعلام التكريم؟ وقد خلعوا عن أنفسهم شارة التكريم؟!
وبعد السحب والجر في هذا العذاب وفي هذه المهانة، ينتهي بهم المطاف إلى ماء حار وإلى نار:
في الحميم ثم في النار يسجرون ..
أي يربطون ويحبسون، على طريقة سجر الكلاب. أي يملأ لهم المكان ماء حارا ونارا موقدة. وإلى هذا ينتهون.
وبينما هم في هذا العذاب المهين يوجه إليهم التبكيت والترذيل والإحراج والإعنات:
ثم قيل لهم: أين ما كنتم تشركون من دون الله؟ ..
فيجيبون إجابة المخدوع الذي انكشفت له خدعته، وهو يائس حسير.
قالوا: ضلوا عنا. بل لم نكن ندعو من قبل شيئا ..
غابوا عنا فلم نعد نعرف لهم طريقا، وما عادوا يعرفون لنا طريقا. بل لم نكن ندعو من قبل شيئا. فقد كانت كلها أوهاما وأضاليل!
وعلى إثر الجواب البائس يجيء التعقيب العام:
كذلك يضل الله الكافرين ..
ثم يوجه إليهم التأنيب الأخير:
ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تمرحون. ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين ..
يا مغيث! وأين إذن كان السحب في السلاسل والأغلال، وكان الماء الحار والنار؟ يبدو أنها كانت مقدمة للدخول في جهنم للخلود..
فبئس مثوى المتكبرين .. فعن الكبر نشأت هذه المهانة. وجزاء على الكبر كان هذا التحقير!
وأمام هذا المشهد. مشهد الذل والمهانة والعذاب الرعيب. وعاقبة الجدال في آيات الله، والكبر النافخ في الصدور.. أمام هذا المشهد وهذه العاقبة، يتجه السياق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصيه بالصبر على ما يجده من كبر ومن جدال، والثقة بوعد الله الحق على كل حال. سواء أراه الله بعض الذي يعدهم في حياته، أو قبضه إليه وتولى الأمر عنه. فالقضية كلها راجعة إلى الله، وليس على الرسول إلا البلاغ، وهم إليه راجعون:
فاصبر إن وعد الله حق. فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون ..
وهنا نقف أمام لفتة تستحق التدبر العميق. إن هذا الرسول الذي يلاقي ما يلاقي من الأذى والتكذيب والكبر والكنود، يقال له ما مفهومه: أد واجبك وقف عنده. فأما النتائج فليست من أمرك. حتى شفاء صدره بأن يشهد تحقق بعض وعيد الله للمتكبرين المكذبين ليس له أن يعلق به قلبه! إنه يعمل وكفى. يؤدي واجبه ويمضي.
فالأمر ليس أمره. والقضية ليست قضيته. إن الأمر كله لله. والله يفعل به ما يريد.
يا لله! يا للمرتقى العالي. ويا للأدب الكامل. الذي يأخذ الله به أصحاب هذه الدعوة. في شخص رسوله الكريم.
[ ص: 3098 ] وإنه لأمر شاق على النفس البشرية. أمر يحتاج إلى الصبر على أشواق القلب البشري العنيفة. لعله من أجل هذا كان التوجيه إلى الصبر في هذا الموضع من السورة. فلم يكن هذا تكرارا للأمر الذي سبق فيها. إنما كان توجيها إلى صبر من لون جديد. ربما كان أشق من الصبر على الإيذاء والكبر والتكذيب؟!
إن احتجاز النفس البشرية عن الرغبة في أن ترى كيف يأخذ الله أعداءه وأعداء دعوته، بينما يقع عليها العداء والخصومة من أولئك الأعداء، أمر شديد على النفس صعيب. ولكنه الأدب لإلهي العالي، والإعداد الإلهي لأصفيائه المختارين، وتخليص النفس المختارة من كل شيء لها فيه أرب، حتى ولو كان هذا الأرب هو الانتصار من أعداء هذا الدين!
ولمثل هذه اللفتة العميقة ينبغي أن تتوجه قلوب الدعاة إلى الله في كل حين. فهذا هو حزام النجاة في خضم الرغائب، التي تبدو بريئة في أول الأمر، ثم يخوض فيها الشيطان بعد ذلك ويعوم!