ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون (78)
الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون (79)
ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون (80)
ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون (81)
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (82)
فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (83)
فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين (84)
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون (85) /
هذا الشوط استكمال للتعقيب في آخر الدرس الماضي. استكمال لتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إلى الصبر، حتى يأذن الله، ويتحقق وعده ووعيده، سواء تحقق هذا في حياته - صلى الله عليه وسلم - أم استأخر بعد وفاته. فالأمر ليس أمره، إنما هو أمر هذه العقيدة والمؤمنين بها والمجادلين فيها، المستكبرين عنها. والحكم في هذا الأمر هو الله. وهو الذي يقود حركتها ويوجه خطواتها كما يشاء.
فأما هذا الشوط الجديد - الذي تختم به السورة - فيستطرد في عرض جوانب أخرى من هذه الحقيقة..
[ ص: 3099 ] إن قصة هذا الأمر قصة طويلة وقديمة، ولم تبدأ برسالة الإسلام ورسوله - عليه الصلاة والسلام - فقبله كانت رسل. قص الله بعضهم عليه وبعضهم لم يقصصهم عليه. وكلهم ووجهوا بالتكذيب والاستكبار. وكلهم طولب بالآيات والخوارق. وكلهم تمنى لو يأتي الله بخارقة يذعن لها المكذبون. ولكن ما من آية إلا بإذن الله، في الوقت الذي يريده الله. فهي دعوته، وهو يصرفها كيف يشاء.
على أن آيات الله مبثوثة في الكون، معروضة للأنظار في كل زمان ومكان. يتحدث منها هنا عن الأنعام، والفلك، ويشير إشارة عامة إلى سائرها الذي لا يملك إنكاره أحد.
ويختم السورة بلمسة قوية عن مصارع الغابرين، الذين وقفوا موقف المكذبين، وغرهم ما كانوا فيه من القوة والعمارة والعلم. ثم أدركتهم سنة الله:
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا، سنت الله التي قد خلت في عباده، وخسر هنالك الكافرون ..
وبهذا الإيقاع تختم السورة التي دارت كلها على المعركة بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان حتى ختمت هذا الختام الأخير..
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك، منهم من قصصنا عليك، ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله، فإذا جاء أمر الله قضي بالحق، وخسر هنالك المبطلون ..
إن لهذا الأمر سوابق كثيرة، قص الله على رسوله بعضها في هذا الكتاب، وبعضها لم يقصصه. وفيما قصه من أمر الرسل ما يشير إلى الطريق الطويل الواصل الواضح المعالم; وما يقرر السنة الماضية الجارية التي لا تتخلف; وما يوضح حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل وحدودها أدق إيضاح.
وتؤكد الآية حقيقة تحتاج إلى توكيدها في النفس، وتتكئ عليها لتقررها تقريرا شديدا:
وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ..
فالنفس البشرية - ولو كانت نفس رسول - تتمنى وترغب أن تستعلي الدعوة وأن يذعن لها المكابرون سريعا. فتتطلع إلى ظهور الآية الخارقة التي تقهر كل مكابرة. ولكن الله يريد أن يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق; ويروضوا أنفسهم عليه; فيبين لهم أن ليس لهم من الأمر شيء، وأن وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ، وأن مجيء الآية هو الذي يتولاه حينما يريد. لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر; ويرضوا بكل ما يتم على أيديهم ويدعوا الأمر كله بعد ذلك لله.
ويريد كذلك أن يدرك الناس طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة، ويعرفوا أن الرسل بشر منهم، اختارهم الله، وحدد لهم وظيفتهم، وما هم بقادرين ولا محاولين أن يتجاوزوا حدود هذه الوظيفة..
كذلك ليعلم الناس أن تأخير الآيات رحمة بهم; فقد قضى في تقديره بأن يدمر على المكذبين بعد ظهور الآيات. وإذن فهي مهلة، وهي من الله رحمة:
فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون ..
ولم يعد هناك مجال لعمل ولا لتوبة ولا لرجعة بعد قضاء اله الأخير.
ثم يوجه طلاب الخوارق إلى آيات الله الحاضرة التي ينسون وجودها بطول الألفة. وهي لو تدبروها بعض
[ ص: 3100 ] هذه الخوارق التي يطلبون; وهي شاهدة كذلك بالألوهية لبطلان أي ادعاء بأن أحدا غير الله خلقها، وأي ادعاء كذلك بأنها خلقت بلا خالق مدبر مريد:
الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها، ومنها تأكلون. ولكم فيها منافع، ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم، وعليها وعلى الفلك تحملون. ويريكم آياته، فأي آيات الله تنكرون؟ ..
وخلق هذه الأنعام ابتداء آية خارقة كخلق الإنسان. فبث الحياة فيها وتركيبها وتصويرها كلها خوارق، لا يتطاول الإنسان إلى ادعائها! وتذليل هذه الأنعام وتسخيرها للإنسان، وفيها ما هو أضخم منه جسما وأشد منه قوة، وهو جعلها:
الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها، ومنها تأكلون.. . وهذه لا يستحق الاحترام أن يقول قائل: إنها هكذا وجدت والسلام! وإنها ليست خارقة معجزة بالقياس إلى الإنسان! وإنها لا تدل على الخالق الذي أنشأها وسخرها بما أودعها من خصائص وأودع الإنسان! ومنطق الفطرة يقر بغير هذا الجدال والمراء.
ويذكرهم بما في هذه الآيات الخوارق من نعم كبار:
لتركبوا منها، ومنها تأكلون ،
ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم. وعليها وعلى الفلك تحملون ..
والحاجات التي كانت في الصدور والتي كانوا يبلغونها على الأنعام هي حاجات ضخمة في ذلك الزمان. قبل نشوء كل وسائل النقل والسفر والاتصال إلا على هذه الأنعام. وما تزال هناك حاجات تبلغ على هذه الأنعام حتى اليوم وغد. وهناك حتى اللحظة أسفار في بعض الجبال لا تبلغها إلا الأنعام مع وجود القطار والسيارة والطيارة، لأنها مجازات ضيقة لا تتسع لغير أقدام الأنعام!
وعليها وعلى الفلك تحملون ..
وهذه كتلك آية من آيات الله. ونعمة من نعمه على الإنسان. وسير الفلك على الماء قائم على نواميس وموافقات في تصميم هذا الكون: سمائه وأرضه. يابسه ومائه. وفي طبيعة أشيائه وعناصره. لا بد أن توجد حتى يمكن أن يسير الفلك على الماء. سواء سار بالشراع أم بالبخار أم بالذرة، أم بغيرها من القوى التي أودعها الله هذا الكون، ويسر استخدامها للإنسان.. ومن ثم تذكر في معرض آيات الله، وفي معرض نعمه على السواء.
وكم هنالك من آيات من هذا النوع الحاضر المتناثر في الكون، لا يملك إنسان أن ينكره وهو جاد:
ويريكم آياته. فأي آيات الله تنكرون؟
نعم إن هنالك من ينكر. وهنالك من يجادل في آيات الله. وهنالك من يجادل بالباطل ليدحض به الحق.
ولكن أحدا من هؤلاء لا يجادل إلا عن التواء، أو غرض، أو كبر، أو مغالطة، لغاية أخرى غير الحقيقة.
هنالك من يجادل لأنه طاغية
كفرعون وأمثاله، يخشى على ملكه، ويخشى على عرشه، لأن هذا العرش يقوم على أساطير يذهب بها الحق، الذي يثبت بثبوت حقيقة الألوهية الواحدة!
وهنالك من يجادل لأنه صاحب مذهب في الحكم كالشيوعية يتحطم إذا ثبتت حقيقة العقيدة السماوية في نفوس البشر. لأنه يريد أن يلصق الناس بالأرض; وأن يعلق قلوبهم بمعداتهم وشهوات أجسادهم; وأن يفرغها من عبادة الله لتعبد المذهب أو تعبد الزعيم!
وهنالك من يجادل لأنه ابتلي بسيطرة رجال الدين - كما وقع في تاريخ الكنيسة في العصور الوسطى - ومن ثم فهو يريد الخلاص من هذه السيطرة. فيشتط فيرد على الكنيسة إلهها، الذي تستعبد باسمه الناس!
[ ص: 3101 ] وهنالك أسباب وأسباب.. غير أن منطق الفطرة ينفر من هذا الجدال، ويقر بالحقيقة الثابتة في ضمير الوجود; والتي تنطق بها آيات الله بعد كل جدال!
وفي الختام يجيء ذلك الإيقاع القوي الأخير:
أفلم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون. فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. فلما رأوا بأسنا قالوا: آمنا بالله وحده، وكفرنا بما كنا به مشركين. فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا. سنت الله التي قد خلت في عباده. وخسر هنالك الكافرون .
ومصارع الغابرين كثيرة في تاريخ البشرية; وبعضها ما تزال له آثار تحكي قصته; وبعضها حفظته الروايات على الألسنة، أو حفظته الأوراق والكتب. والقرآن كثيرا ما يوجه القلوب إليها، لما فيها من دلالة على حقائق ثابتة في خط سير البشرية; ولما لها كذلك من أثر في النفس الإنسانية عميق عنيف. والقرآن يخاطب الفطرة بما يعلمه منزل هذا القرآن من حقيقة الفطرة، ومساربها ومداخلها، وأبوابها التي تطرق فتفتح، بعضها بعد نقرة خفيفة وبعضها بعد طرقات كثيرة إن كان قد ران عليها الركام!
وهنا يسألهم وينشطهم للسير في الأرض، بعين مفتوحة، وحس متوفز، وقلب بصير لينظروا ويتدبروا ما كان في الأرض قبلهم; وما يتعرضون هم لجريانه عليهم:
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ ..
وقبل أن يذكر كيف كان هذه العاقبة، يصف حال الذين من قبلهم، ويقرن إليها حالهم هم لتتم الموازنة، وتتم العبرة:
كانوا أكثر منهم، وأشد قوة وآثارا في الأرض ..
توافرت لهم الكثرة والقوة والعمران. ومن هؤلاء أجيال وأمم كانت قبل
العرب ، قص الله على رسوله بعضها، ولم يقصص عليه بعضها. ومنهم من كان
العرب يعرفون قصته ويمرون بآثاره..
فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ..
ولم تعصمهم قوة ولا كثرة ولا عمارة، مما كانوا يعتزون به ويغترون. بل كان هذا هو أصل شقائهم، وسبب هلاكهم:
فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم ..
والعلم - بغير إيمان - فتنة. فتنة تعمي وتطغي. ذلك أن هذا اللون من العلم الظاهري يوحي بالغرور؛ إذ يحسب صاحبه أنه يتحكم بعلمه هذا في قوى ضخمة، ويملك مقدرات عظيمة، فيتجاوز بنفسه قدرها ومكانها! وينسى الآماد الهائلة التي يجهلها. وهي موجودة في هذا الكون; ولا سلطان له عليها. بل لا إحاطة له بها. بل لا معرفة له بغير أطرافها القريبة. وبذلك ينتفخ فيأخذ أكثر من حقيقته. ويستخفه علمه وينسى جهله. ولو قاس ما يعلم إلى ما يجهل. وما يقدر عليه في هذا الكون إلى ما يعجز حتى عن إدراك سره لطامن من كبريائه، وخفف من فرحه الذي يستخفه.
وهؤلاء فرحوا بما عندهم من العلم. واستهزؤوا بمن يذكرهم بما وراءه:
[ ص: 3102 ] وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ..
فلما عاينوا بأس الله، سقط عنهم القناع، وأدركوا مدى الغرور، واعترفوا بما كانوا ينكرون، وأقروا بوحدانية الله، وكفروا بشركائهم من دونه. ولكن الأوان كان قد فات:
فلما رأوا بأسنا قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين. فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ..
ذلك أن سنة الله قد جرت على أن لا تقبل التوبة بعد ظهور بأس الله: فهي توبة الفزع لا توبة الإيمان:
سنت الله التي قد خلت في عباده ..
وسنة الله ثابتة لا تضطرب ولا تختلف ولا تحيد عن الطريق.
وخسر هنالك الكافرون .
وعلى هذا المشهد العنيف. مشهد بأس الله يأخذ المكذبين. ومشهدهم يستغيثون ويفزعون، ويعلنون كلمة الإذعان والتسليم. تختم السورة. فيتناسق هذا الختام مع جوها وظلها وموضوعها الأصيل.
ولقد مررنا في ثنايا السورة بقضايا العقيدة التي تعالجها السور المكية: قضية التوحيد، وقضية البعث، وقضية الوحي.. ولكنها لم تكن هي موضوع السورة البارز. إنما كانت المعركة بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان، هي البارزة، وكانت ملامح المعركة هي التي ترسم " شخصية السورة " .. وسماتها المميزة لها بين سور القرآن..