صفحة جزء
فصل قوله تعالى : والذين لم يبلغوا الحلم منكم يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة سنة ؛ إذ لم يحتلم قبل ذلك ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين من بلغها وبين من قصر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة : رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم . ولم يفرق بين من بلغ خمس عشرة سنة وبين من لم يبلغها . وأما حديث ابن عمر : أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجز وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه ، فإنه مضطرب ؛ لأن الخندق كان في سنة خمس ، وأحد في سنة ثلاث ، فكيف يكون بينهما سنة ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ ؛ لأنه قد يرد البالغ لضعفه ويجاز غير البالغ لقوته على القتال وطاقته لحمل السلاح ، كما أجاز رافع بن خديج ورد سمرة بن جندب ، فلما قيل له : إنه يصرعه أمرهما فتصارعا ، فصرعه سمرة فأجازه ولم يسأله عن سنه . وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل ابن عمر عن مبلغ سنه في الأول ولا في الثاني وإنما اعتبر في قوته وضعفه ؛ فاعتبار السن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجازه في وقت ورده في وقت ساقط .

وقد اتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ ، واختلفوا إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة ( لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها ، وفي الجارية سبع عشرة سنة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي في الغلام والجارية خمس عشرة سنة ) وذهبوا فيها إلى حديث ابن عمر ، وقد بينا أن لا دلالة فيه على أنها حد البلوغ ؛ ويدل عليه أنه لم يسأله عن الاحتلام ولا عن السن .

ولما ثبت بما وصفنا أن الخمس عشرة ليست ببلوغ وظاهر قوله والذين لم يبلغوا الحلم منكم ينفي أيضا أن تكون الخمس عشرة بلوغا على الحد الذي بينا ، صار طريق إثبات حد البلوغ بعد ذلك الاجتهاد ؛ لأنه حد بين الصغر والكبر الذين قد عرفنا طريقهما وهو واسطة بينهما ، فكان طريقه الاجتهاد .

وليس يتوجه على القائل بما وصفنا سؤال ، كالمجتهد في تقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لا توقيف في مقاديرها ومهور الأمثال ونحوها .

فإن قيل : فلا بد من أن يكون اعتباره لهذا المقدار دون غيره لضرب من الترجيح على غيره يوجب تغليب ذلك في رأيه دون ما عداه من المقادير .

قيل له : قد علمنا أن العادة في البلوغ خمس عشرة سنة وكل ما كان طريقه العادات فقد تجوز الزيادة فيه والنقصان منه ، وقد وجدنا من بلغ في اثنتي عشرة سنة ، وقد بينا [ ص: 194 ] أن الزيادة على المعتاد من الخمس عشرة جائزة كالنقصان عنه فجعل أبو حنيفة الزيادة على المعتاد كالنقصان عنه وهي ثلاث سنين ؛ كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل المعتاد من حيض النساء ستا أو سبعا بقوله لحمنة بنت جحش : تحيضين في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر اقتضى ذلك أن يكون العادة ستا ونصفا ؛ لأنه جعل السابع مشكوكا فيه بقوله : ( ستا أو سبعا ) .

ثم قد ثبت عندنا أن النقصان عن المعتاد ثلاث ونصف ؛ لأن أقل الحيض عندنا ثلاث وأكثره عشرة ، فكانت الزيادة على المعتاد بإزاء النقصان منه ، وجب أن يكون كذلك اعتبار الزيادة على المعتاد فيما وصفنا .

وقد حكي عن أبي حنيفة تسع عشرة سنة للغلام ؛ وهو محمول على استكمال ثماني عشرة والدخول في التاسع عشرة .

واختلف في الإثبات هل يكون بلوغا ، فلم يجعله أصحابنا بلوغا ، والشافعي يجعله بلوغا ، وظاهر قوله : والذين لم يبلغوا الحلم منكم ينفي أن يكون الإثبات بلوغا إذا لم يحتلم ، كما نفى كون خمس عشرة بلوغا . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : وعن الصبي حتى يحتلم وهذا خبر منقول من طريق الاستفاضة قد استعمله السلف والخلف في رفع حكم القلم عن المجنون والنائم والصبي . واحتج من جعله بلوغا بحديث عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من بني قريظة واستحيا من لم ينبت ، قال : فنظروا إلي فلم أكن أنبت فاستبقاني . وهذا حديث لا يجوز إثبات الشرع بمثله ؛ إذ كان عطية هذا مجهولا لا يعرف إلا من هذا الخبر ، لا سيما مع اعتراضه على الآية والخبر في نفي البلوغ إلا بالاحتلام ؛ ومع ذلك فهو مختلف الألفاظ ، ففي بعضها أنه أمر بقتل من جرت عليه المواسي ، وفي بعضها من اخضر إزاره ؛ ومعلوم أنه لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدم في بلوغه ، ولا يكون قد جرت عليه المواسي إلا وهو رجل كبير ؛ فجعل الإثبات وجري المواسي عليه كناية عن بلوغ القدر الذي ذكرنا في السن وهي ثماني عشرة وأكثر .

وروي عن عقبة بن عامر وأبي بصرة الغفاري أنهما قسما في الغنيمة لمن أنبت . وهذا لا دلالة فيه على أنهما رأيا الإنبات بلوغا ؛ لأن القسمة جائزة للصبيان على وجه الرضخ . وقد روي عن قوم من السلف شيء في اعتبار طول الإنسان لم يأخذ به أحد من الفقهاء . وروى محمد بن سيرين عن أنس قال : ( أتى أبو بكر بغلام قد سرق ، فأمره فشبر فنقص أنملة فخلى عنه ) .

وروى قتادة عن خلاس عن علي قال : ( إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتص له ويقتص منه ، وإذا استعانه رجل بغير إذن أهله لم يبلغ خمسة أشبار [ ص: 195 ] فهو ضامن ) .

وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة : ( أن ابن الزبير أتى بوصيف لعمر بن أبي ربيعة قد سرق فقطعه ، ثم حدث أن عمر كتب إليه في غلام من أهل العراق ، فكتب إليه أن اشبره فشبره فنقص أنملة فسمي نميلة ) .

قال أبو بكر : وهذه أقاويل شاذة بأسانيد ضعيفة تبعد أن تكون من أقاويل السلف ، ؛ إذ الطول والقصر لا يدلان على بلوغ ولا نفيه ؛ لأنه قد يكون قصيرا وله عشرون سنة وقد يكون طويلا ولا يبلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم ؛ وقوله والذين لم يبلغوا الحلم منكم يدل على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح وإن لم يكن من أهل التكليف ، على جهة التعليم ؛ كما أمرهم الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات .

وقد روي عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا بلغ الغلام سبع سنين فمروه بالصلاة ، وإذا بلغ عشرا فاضربوه عليها . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا وفرقوا بينهم في المضاجع . وعن ابن مسعود قال : ( حافظوا على أبنائكم في الصلاة ) .

وروى نافع عن ابن عمر قال : ( يعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله ) .

وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : ( كان علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا ، فيقال له : يصلون الصلاة لغير وقتها فيقول : هذا خير من أن يتناهوا عنها ) . وروى هشام بن عروة : ( أنه كان يأمر بنيه بالصلاة إذا عقلوها وبالصوم إذا أطاقوه ) . وروى أبو إسحاق عن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال : ( إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات حتى يحتلم ) .

قال أبو بكر : إنما يؤمر بذلك على وجه التعليم وليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفورا منه ، وكذلك يجنب شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وينهى عن سائر المحظورات ؛ لأنه لو لم يؤمر بذلك في الصغر وخلي وسائر شهواته وما يؤثره ويختاره يصعب عليه بعد البلوغ الإقلاع عنه ؛ وقال الله تعالى : قوا أنفسكم وأهليكم نارا روي في التفسير : أدبوهم وعلموهم . وكما ينهى عن اعتقاد الكفر والشرك وإظهاره وإن لم يكن مكلفا ، كذلك حكم الشرائع .

التالي السابق


الخدمات العلمية