باب
المحرم يصيبه أذى من رأسه أو مرض قال الله تعالى :
ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه إلى آخر الآية ، يعني والله أعلم : فمن كان منكم مريضا من المحرمين محصرين أو غير محصرين فأصابه مرض أو أذى في رأسه ففدية من صيام ؛ فدل ذلك على أن
المحصر [ ص: 350 ] لا يجوز له الحلق قبل بلوغ الهدي محله ، وأنه
إذا كان مريضا أو به أذى من رأسه فحلق فعليه الفدية ، وإن كان غير محصر فهو في حكم المحصر الذي لم يبلغ هديه محله ، فدل ذلك على التسوية بين المحصرين وغير المحصرين في أن كل واحد منهم لا يجوز له الحلق في الإحرام إلا على الشرط المذكور . وقوله تعالى :
فمن كان منكم مريضا عنى المرض الذي يحتاج فيه إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام فيفعل ذلك لدفع الأذى ويفتدي . وكذلك قوله :
أو به أذى من رأسه إنما هو على أذى يحتاج فيه إلى استعمال بعض ما يحظره الإحرام من حلق أو تغطية ، فأما إن كان مريضا أو به أذى في رأسه لا يحتاج فيه إلى حلق ولا إلى استعمال بعض ما يحظره الإحرام فهو في هذه الحال بمنزلة الصحيح في حظر ما يحظره الإحرام . وقد روي في أخبار متظاهرة عن
nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=651689أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به في عام الحديبية والقمل تتناثر على وجهه ، فقال : أتؤذيك هوام رأسك ؟ فقلت : نعم ، فأمره بالفدية . فكان كثرة القمل من الأذى المراد بالآية ولو كان به قروح في رأسه أو خراج فاحتاج إلى شده أو تغطيته كان ذلك حكمه في جواز الفدية ، وكذلك سائر الأمراض التي تصيبه ويحتاج إلى لبس الثياب جاز له أن يستبيح ذلك ويفتدي ؛ لأن الله لم يخصص شيئا من ذلك ، فهو عام في الكل .
فإن قيل : قوله :
فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه معناه : فحلق ففدية من صيام . قيل له : الحلق غير مذكور وإن كان مرادا ، وكذلك اللبس وتغطية الرأس ، كل ذلك غير مذكور وهو مراد ؛ لأن المعنى فيه استباحة ما يحظره الإحرام للعذر . وكذلك لو لم يكن مريضا وكان به أذى في بدنه يحتاج فيه إلى حلق الشعر كان في حكم الرأس في باب الفدية ؛ إذ كان المعنى معقولا في الجميع وهو استباحة ما يحظره الإحرام في حال العذر وأما قوله تعالى :
ففدية من صيام فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام ثلاثة أيام في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة ؛ وهو قول جماعة
السلف وفقهاء الأمصار إلا شيء روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=16584وعكرمة أن الصيام عشرة أيام كصيام المتعة . وأما الصدقة فإنه روي في مقدارها عن
nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة الظاهر ، فمنها ما حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13433عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا
أحمد بن سهل بن أيوب قال : حدثنا
سهل بن محمد قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15926ابن أبي زائدة عن أبيه قال : حدثني
عبد الرحمن بن الأصبهاني عن
nindex.php?page=showalam&ids=5078عبد الله بن مغفل أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=659094 nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة حدثه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم محرما فقمل رأسه ولحيته ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فدعا [ ص: 351 ] بحلاق فحلق رأسه وقال هل تجد نسكا قال : ما أقدر عليه ، فأمره أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين صاعا ، وأنزل الله : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك للمسلمين عامة .
ورواه
صالح بن أبي مريم عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد عن
nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة بمثل ذلك . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=15854داود بن أبي هند عن
عامر عن
nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة وقال فيه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=673507تصدق بثلاثة آصع من تمر بين كل مسكينين صاع . وحدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13433عبد الباقي قال : حدثنا
عبد الله بن الحسن بن أحمد قال : حدثنا
عبد العزيز بن داود قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15854داود بن أبي هند ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16330عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :
nindex.php?page=hadith&LINKID=653869انسك نسيكة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصع من طعام لستة مساكين . فذكر في الخبر الأول ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين ، وفي خبر ستة آصع ، وهذا أولى ؛ لأن فيه زيادة . ثم قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=673506ثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين ينبغي أن يكون المراد به الحنطة ؛ لأن هذا ظاهره والمعتاد المتعارف منه ، فيحصل من ذلك أن يكون من التمر ستة آصع ومن الحنطة ثلاثة آصع عدد المساكين الذين يتصدق عليهم ستة بلا خلاف . وأما النسك فإن في أخبار
nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن ينسك نسيكة ، وفي بعضها شاة ، ولا خلاف بين الفقهاء أن أدناه شاة وإن شاء جعله بعيرا أو بقرة ، ولا خلاف أنه مخير بين هذه الأشياء الثلاثة يبتدئ بأيها شاء ، وذلك مقتضى الآية وهو قوله :
فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك و " أو " للتخيير هذا حقيقتها وبابها ، إلا أن تقوم الدلالة على غير هذا في الإثبات ، وقد بيناه في مواضع .
واختلف الفقهاء في
موضع الفدية من الدم والصدقة مع اتفاقهم على أن الصوم غير مخصوص بموضع فإن له أن يصوم في أي موضع شاء ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبو يوسف nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد nindex.php?page=showalam&ids=15922وزفر : " الدم
بمكة والصيام والصدقة حيث شاء " . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس : " الدم والصدقة والصيام حيث شاء " . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : " الصدقة والدم
بمكة والصيام حيث شاء " .
فظاهر قول :
ففدية من صيام أو صدقة أو نسك يقتضي إطلاقها حيث شاء المفتدي غير مخصوص بموضع لو لم يكن في غيرها من الآي دلالة على تخصيصه بالحرم وهو قوله :
لكم فيها منافع إلى أجل مسمى يعني الأنعام التي قدم ذكرها ، ثم قال :
ثم محلها إلى البيت العتيق وذلك عام في سائر الأنعام التي تهدى إلى البيت ؛ فوجب بعموم هذه الآية أن
كل هدي متقرب به مخصوص بالحرم لا يجزي في غيره . ويدل عليه : قوله تعالى :
[ ص: 352 ] هديا بالغ الكعبة وذلك جزاء الصيد ، فصار بلوغ
الكعبة صفة للهدي ولا يجزئ دونها . وأيضا لما كان ذلك ذبحا تعلق وجوبه بالإحرام وجب أن يكون مخصوصا
بالحرم كجزاء الصيد وهدي المتعة . فإن قيل : لما
nindex.php?page=hadith&LINKID=659092قال النبي صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=showalam&ids=167لكعب بن عجرة : أو اذبح شاة ولم يشترط له مكانا ، وجب أن لا يكون مخصوصا بموضع . قيل له : إن
nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة أصابه ذلك وهو
بالحديبية ، وبعضها من الحل وبعضها من
الحرم ، فجائز أن يكون ترك ذكر المكان اكتفاء بعلم
nindex.php?page=showalam&ids=167كعب بن عجرة بأن ما تعلق من ذلك بالإحرام فهو مخصوص
بالحرم ، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك عالمين بحكم تعلق الهدايا بالحرم لما كانوا يرون النبي صلى الله عليه وسلم يسوق البدن إلى
الحرم لينحرها هناك ، وأما الصدقة والصوم فحيث شاء ؛ لأن الله تعالى أطلق ذلك غير مقيد بذكر المكان ، فغير جائز لنا تقييده
بالحرم ؛ لأن المطلق على إطلاقه كما أن المقيد على تقييده . ويدل عليه أنه ليس في الأصول صدقة مخصوصة بموضع لا يجوز أداؤها في غيره ، فلما كانت هذه صدقة لم تجز أن تكون مخصوصة بموضع لا يجوز أداؤها في غيره ؛ لأن ذلك مخالف للأصول خارج عنها .
فإن قيل : ينبغي أن تكون الصدقة في
الحرم لأن للمساكين
بالحرم فيها حقا كالذبائح . قيل له : الذبح لم يتعلق جوازه
بالحرم لأجل حق المساكين ؛ لأنه لو ذبحه في
الحرم ثم أخرجه منه وتصدق به في غير
الحرم أجزأه ، ومع ذلك فإنه لا يختص ذلك بمساكين
الحرم دون غيرهم ؛ لأنه لو كان حقا لهم لكان لهم المطالبة به ، ولما لم تكن لهم المطالبة به دل على أنه ليس بحق لهم وإنما هو حق الله قد لزمه إخراجه إلى المساكين على وجه القربة كالزكاة وسائر الصدقات التي لا تختص بموضع دون غيره ، وأيضا لما لم تكن القربة فيها إراقة الدم وجب أن لا يختص
بالحرم كالصيام . وقد اختلف
السلف في ذلك ، فروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء nindex.php?page=showalam&ids=12354وإبراهيم قالوا : " ما كان من دم فبمكة وما كان من صيام أو صدقة فحيث شاء " . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد قال : " اجعل الفدية حيث شئت " . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس : " النسك والصدقة بمكة والصيام حيث شئت " . وروي أن
nindex.php?page=showalam&ids=8عليا نحر عن
nindex.php?page=showalam&ids=17الحسين بعيرا ، وكان قد مرض وهو محرم ، وأمر بحلقه ، ونحر البعير عنه بالسقيا وقسمه على أهل الماء . وليس في ذلك دلالة على أنه رأى جواز الذبح في غير
الحرم ؛ لأنه جائز أن يكون جعل اللحم صدقة ، وذلك جائز عندنا ؛ والله أعلم .
[ ص: 353 ]