صفحة جزء
باب الفرار من الطاعون

قال الله (تعالى): ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ؛ قال ابن عباس : "كانوا أربعة آلاف؛ خرجوا فرارا من الطاعون؛ فماتوا؛ فمر عليهم نبي من الأنبياء؛ فدعا ربه أن يحييهم؛ فأحياهم الله"؛ وروي عن الحسن أيضا أنهم [ ص: 165 ] فروا من الطاعون؛ وقال عكرمة : "فروا من القتال"؛ وهذا يدل على أن الله (تعالى) كره فرارهم من الطاعون؛ وهو نظير قوله (تعالى): أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ؛ وقوله (تعالى): قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم وقوله (تعالى): قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ؛ وقوله (تعالى): فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ؛ وإذا كانت الآجال موقتة؛ محصورة ؛ لا يقع فيها تقديم؛ ولا تأخير عما قدرها الله عليه؛ فالفرار من الطاعون عدول عن مقتضى ذلك؛ وكذلك الطيرة؛ والزجر؛ والإيمان بالنجوم؛ كل ذلك فرار من قدر الله - عز وجل - الذي لا محيص لأحد عنه.

وقد روي عن عمرو بن جابر الحضرمي؛ عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف؛ والصابر فيه كالصابر في الزحف"؛ وروى يحيى بن أبي كثير ؛ عن سعيد بن المسيب ؛ عن سعد ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا عدوى؛ ولا طيرة؛ وإن تكن الطيرة في شيء فهي في الفرس؛ والمرأة؛ والدار؛ وإذا سمعتم بالطاعون بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليه؛ وإذا كان وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا عنه"؛ وروي عن أسامة بن زيد ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله في الطاعون؛ وروى الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ؛ عن عبد الله بن الحارث بن عبد الله بن نوفل؛ عن ابن عباس ؛ أن عمر خرج إلى الشام؛ حتى إذا كان بسرغ لقيه التجار؛ فقالوا: "الأرض سقيمة"؛ فاستشار المهاجرين؛ والأنصار؛ فاختلفوا عليه؛ فعزم على الرجوع؛ فقال له أبو عبيدة : "أفرارا من قدر الله؟"؛ فقال له عمر : "لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة ؛ نفر من قدر الله إلى قدر الله؛ أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان؛ إحداهما خصيبة؛ والأخرى جديبة؛ ألست إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله؛ وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله؟ فجاء عبد الرحمن بن عوف ؛ فقال: عندي من هذا علم؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه؛ وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه"؛ فحمد الله عمر ؛ وانصرف.

ففي هذه الأخبار النهي عن الخروج عن الطاعون؛ فرارا منه؛ والنهي عن الهبوط عليه أيضا؛ فإن قال قائل: إذا كانت الآجال مقدرة؛ محصورة؛ لا تتقدم؛ ولا تتأخر عن وقتها؛ فما وجه نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دخول أرض بها الطاعون؛ وهو قد منع الخروج منها بديا لأجله؛ ولا فارق بين دخولها؛ وبين البقاء فيها؟ قيل له: إنما وجه النهي أنه إذا دخلها وبها الطاعون فجائز أن تدركه منيته؛ وأجله بها؛ فيقول قائل: لو لم يدخلها ما مات؛ فإنما نهاه [ ص: 166 ] عن دخولها لئلا يقال هذا؛ وهو كقوله (تعالى): يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ؛ فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلها؛ فعسى يموت فيها بأجله؛ فيقول قوم من الجهال: لو لم يدخلها لم يمت؛ وقد أصاب بعض الشعراء في هذا المعنى حين قال:


يقولون لي لو كان بالرمل لم تمت ... بثينة والأنباء يكذب قيلها

    ولو أنني استودعتها الشمس لاهتدت
... إليها المنايا عينها ودليلها



وعلى هذا المعنى الذي قدمنا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يوردن ذو عاهة على مصح"؛ مع قوله: "لا عدوى؛ ولا طيرة"؛ لئلا يقال - إذا أصاب الصحيح عاهة بعد إيراد ذي عاهة عليه -: إنما أعداه ما ورد عليه؛ وقيل له: يا رسول الله; إن النقبة تكون بمشفر البعير؛ فتجرب لها الإبل؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فما أعدى الأول "؛ وقد روى هشام بن عروة ؛ عن أبيه أن الزبير استفتح مصر؛ فقيل له: "إن هنا طاعونا"؛ فدخلها؛ وقال: "ما جئنا إلا للطعن؛ والطاعون"؛ وقد روي أن أبا بكر لما جهز الجيوش إلى الشام شيعهم؛ ودعا لهم؛ وقال: "اللهم أفنهم بالطعن؛ والطاعون"؛ فاختلف أهل العلم في معنى ذلك؛ فقال قائلون: لما رآهم على حال الاستقامة؛ والبصائر الصحيحة؛ والحرص على جهاد الكفار؛ خشي عليهم الفتنة؛ وكانت بلاد الشام بلاد الطاعون؛ مشهورا ذلك بها؛ أحب أن يكون موتهم على الحال التي خرجوا عليها؛ قبل أن يفتتنوا بالدنيا وزهرتها؛ وقال آخرون: قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فناء أمتي بالطعن؛ والطاعون"؛ يعني عظم الصحابة؛ وأخبر أن الله (تعالى) سيفتح البلاد بمن هذه صفته؛ فرجا أبو بكر أن يكون هؤلاء الذين ذكرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وأخبر عن حالهم؛ ولذلك لم يحب أبو عبيدة الخروج من الشام؛ وقال معاذ : لما وقع الطاعون بالشام؛ وهو بها؛ قال: "اللهم اقسم لنا حظا منه"؛ ولما طعن في كفه أخذ يقبلها؛ ويقول: "ما يسرني بها كذا وكذا"؛ وقال: "لئن كنت صغيرا؛ فرب صغير يبارك الله فيه"؛ أو كلمة نحوها؛ يتمنى الطاعون؛ ليكون من أهل الصفة التي وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بها أمته الذين يفتح الله (تعالى) بهم البلاد؛ ويظهر بهم الإسلام.

وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول من أنكر عذاب القبر ؛ يوزعم أنه من القول بالتناسخ; لأن الله (تعالى) أخبر أنه أمات هؤلاء القوم؛ ثم أحياهم؛ فكذلك يحييهم في القبر؛ ويعذبهم إذا استحقوا ذلك.

وقوله (تعالى): وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن [ ص: 167 ] الله سميع عليم ؛ هو أمر بالقتال في سبيل الله (تعالى)؛ وهو مجمل؛ إذ ليس فيه بيان السبيل المأمور بالقتال فيه؛ وقد بينه في مواضع غيره؛ وسنذكره إذا انتهينا إليه؛ إن شاء الله (تعالى).

وقوله (تعالى): من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ؛ إنما هو استدعاء إلى أعمال البر؛ والإنفاق في سبيل الخير ؛ بألطف الكلام؛ وأبلغه؛ وسماه قرضا تأكيدا لاستحقاق الثواب به؛ إذ لا يكون قرضا إلا والعوض مستحق به؛ وجهلت اليهود ذلك؛ أو تجاهلت؛ لما نزلت هذه الآية؛ فقالوا: إن الله يستقرض منا؛ فنحن أغنياء؛ وهو فقير إلينا؛ فأنزل الله (تعالى): لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ؛ وعرف المسلمون معناه؛ ووثقوا بثواب الله (تعالى) ووعده؛ وبادروا إلى الصدقات؛ فروي أنه لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدحداح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله; ألا ترى ربنا يستقرض منا مما أعطانا لأنفسنا؟ وإن لي أرضين؛ إحداهما بالعالية؛ والأخرى بالسافلة؛ وإني قد جعلت خيرهما صدقة.

التالي السابق


الخدمات العلمية