صفحة جزء
باب مقدار الوصية الجائزة قال الله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين ظاهره يقتضي جواز الوصية بقليل المال وكثيره ؛ لأنها منكورة لا تختص ببعض دون بعض ؛ إلا أنه قد قامت الدلالة من غير هذه الآية على أن المراد بها الوصية ببعض المال لا بجميعه ، وهو : قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر فأطلق إيجاب الميراث فيه من غير ذكر الوصية ، فلو اقتضى قوله تعالى : من بعد وصية يوصى بها الوصية بجميع المال لصار قوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون منسوخا بجواز الوصية بجميع المال ، فلما كان حكم هذه الآية [ ص: 30 ] ثابتا في إيجاب الميراث وجب استعمالها مع آية الوصية ، فوجب أن تكون الوصية مقصورة على بعض المال والباقي للورثة حتى نكون مستعملين لحكم الآيتين ويدل عليه أيضا قوله تعالى : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا يعني في منع الرجل الوصية بجميع ماله على ما تقدم من بيان تأويله ؛ فيدل على جواز الوصية ببعض المال لاحتمال اللفظ للمعنيين .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار تلقتها الأمة بالقبول والاستعمال في الاقتصار بجواز الوصية على الثلث ، منها ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف قالا : حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال : مرض أبي مرضا شديدا قال ابن أبي خلف بمكة مرضا أشفى منه ، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة لي ، أفأتصدق بالثلثين ؟ قال : لا ، قال : فبالشطر ؟ قال : لا ، قال : فبالثلث ؟ قال : الثلث والثلث كثير ، وإنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك قلت : يا رسول الله أتخلف عن هجرتي ؟ قال إنك إن تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله لا تزداد به إلا رفعة ودرجة ، لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ثم قال : اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة .

قال أبو بكر : قد حوى هذا الخبر ضروبا من الأحكام والفوائد ، منها : أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث .

والثاني : أن المستحب النقصان عن الثلث ، ولذلك قال بعض الفقهاء : أستحب النقصان عنه لقوله صلى الله عليه وسلم : " والثلث كثير " .

والثالث : أنه إذا كان قليل المال وورثته فقراء أن الأفضل أن لا يوصي بشيء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وفي ذلك أيضا دليل على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث ؛ لأنه أخبر أن الوصية بأكثر من الثلث ممنوعة لأجل الورثة وفيه الدلالة على أن الصدقة في المرض وصية غير جائزة إلا من الثلث ؛ لأن سعدا قال : أتصدق بجميع مالي ؟ فقال : " لا " إلى أن رده إلى الثلث ؛ وقد رواه جرير عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض ، فقال : أوصيت ؟ قلت : نعم قال : بكم ؟ قلت : بمالي كله في [ ص: 31 ] سبيل الله ، قال : فما تركت لولدك ؟ قال : هم أغنياء ، قال : أوص بالعشر فما زلت أناقصه ويناقصني حتى قال : أوص بالثلث والثلث كثير .

قال أبو عبد الرحمن : فنحن نستحب أن ننقص من الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم : " والثلث كثير " . فذكر في هذا الحديث أنه قال : " أوصيت بمالي كله " وهذا لا ينفي ما روي في الحديث الأول من الصدقة في المرض ؛ لأنه جائز أن يكون لما منعه الوصية بأكثر من الثلث ظن أن الصدقة جائزة في المرض فسأله عنها ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن حكم الصدقة حكم الوصية في وجوب الاقتصار بها على الثلث ، وهو نظير حديث عمران بن حصين في الرجل الذي أعتق ستة أعبد له عند موته ، وفيه : إن الرجل مأجور في النفقة على أهله وهذا يدل على أن من وهب لامرأته هبة لم يجز له الرجوع فيها ؛ لأنها بمنزلة الصدقة ؛ لأنه قد استوجب بها الثواب من الله تعالى ؛ وهو نظير ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا أعطى الرجل امرأته عطية فهي له صدقة .

وقول سعد : " أتخلف عن هجرتي " عنى به أنه يموت بمكة وهي داره التي هاجر منها إلى المدينة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى المهاجرين أن يقيموا بعد النفر أكثر من ثلاث ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتخلف بعده حتى ينفع الله به أقواما ويضر به آخرين ؛ وكذلك كان ، فإنه بقي بعده صلى الله عليه وسلم وفتح الله على يده بلاد العجم وأزال به ملك الأكاسرة ؛ وذلك من علوم الغيب الذي لا يعلمه غير الله تعالى .

حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا أبو عبد الله عبيد الله بن حاتم العجلي قال : حدثني عبد الأعلى بن واصل قال : حدثنا إسماعيل بن صبيح قال : حدثنا مبارك بن حسان قال : حدثنا نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حاكيا عن الله تعالى أنه قال : يا ابن آدم اثنتان ليست لك واحدة منهما : جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك وأزكيك ، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك . ففي هذا الحديث أيضا أن له بعض المال عند الموت لا جميعه .

وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا محمد بن أحمد بن شيبة قال : حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال : حدثنا عثمان قال : سمعت طلحة بن عمرو قال : حدثنا عطاء عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم . قال أبو بكر : فهذه الأخبار الموجبة للاقتصار بالوصية على الثلث عندنا في حيز التواتر الموجب للعلم لتلقي الناس إياها بالقبول ، وهي مبينة لمراد الله تعالى في الوصية المذكورة في الكتاب أنها مقصورة على الثلث وقوله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين يدل على أن [ ص: 32 ] من ليس عليه دين لآدمي ولم يوص بشيء أن جميع ميراثه لورثته ، وأنه إن كان عليه حج أو زكاة لم يجب إخراجه إلا أن يوصي به ، وكذلك الكفارات والنذور .

فإن قيل : إن الحج دين ، وكذلك كل ما يلزمه الله تعالى من القرب في المال لقول النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية حين سألته عن الحج عن أبيها : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزئ ؟ قالت : نعم ، قال : فدين الله أحق بالقضاء . قيل له : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سماه دين الله تعالى ولم يسمه بهذا الاسم إلا مقيدا فلا يتناوله الإطلاق ، وقول الله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين إنما اقتضى التبدئة بما يسمى به دينا على الإطلاق ، فلا ينطوي تحته ما لا يسمى به إلا مقيدا ؛ لأن في اللغة والشرع أسماء مطلقة وأسماء مقيدة ، فلا يتناول المطلق إلا ما يقع الاسم عليه على الإطلاق ، فإذا لم تتناول الآية ما كان من حق الله تعالى من الديون لما وصفنا ، اقتضى قوله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين أنه إذا لم يوص لم يكن عليه دين لآدمي أن يستحق الوارث جميع تركته .

وحديث سعد يدل على ذلك أيضا ؛ لأنه قال : أتصدق بمالي ؟ وفي لفظ آخر : أوصي بمالي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الثلث والثلث كثير ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم الحج ولا الزكاة ونحوهما من حقوق الله تعالى ، ومنع الصدقة والوصية إلا بثلث المال ؛ فثبت بذلك أنه إذا أوصى بهذه الحقوق كانت من الثلث . ويدل عليه أيضا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حاكيا عن الله تعالى : جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك يدل جميع ذلك على أن وصيته بالزكاة والنذور وسائر القرب وإن كانت واجبة لا تجوز إلا من الثلث ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية