صفحة جزء
باب التجارات وخيار البيع قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم قال أبو بكر : قد انتظم هذا العموم النهي عن أكل مال الغير بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل وذلك لأن قوله تعالى : أموالكم يقع على مال الغير ومال نفسه ، كقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم قد اقتضى النهي عن قتل غيره وقتل نفسه ؛ فكذلك قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل نهي لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل .

وأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في معاصي الله ؛ وأكل مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان :

أحدهما : ما قال السدي وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم ، وقال ابن عباس والحسن : أن يأكله بغير عوض ، فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نسخ ذلك بالآية التي في النور : ليس على الأعمى حرج إلى قوله تعالى : ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم الآية . قال أبو [ ص: 128 ] بكر : يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك ؛ لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قط بهذه الآية ، وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكل عند غيره بغير إذنه ، فهذا لعمري قد تناولته الآية . وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال : " هي محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة " وروى الربيع عن الحسن قال : " ما نسخها شيء من القرآن " .

ونظير ما اقتضته الآية من النهي عن أكل مال الغير قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام وقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه . وعلى أن النهي عن أكل مال الغير معقود بصفة ، وهو أن يأكله بالباطل ؛ وقد تضمن ذلك أكل أبدال العقود الفاسدة كأثمان البياعات الفاسدة ، وكمن اشترى شيئا من المأكول فوجده فاسدا لا ينتفع به نحو البيض والجوز ، فيكون أكل ثمنه أكل مال بالباطل ؛ وكذلك ثمن كل ما لا قيمة له ولا ينتفع به كالقرد والخنزير والذباب والزنابير وسائر ما لا منفعة فيه ، فالانتفاع بأثمان جميع ذلك أكل مال بالباطل ، وكذلك أجرة النائحة والمغنية ، وكذلك ثمن الميتة والخمر والخنزير .

وهذا يدل على أن من باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه أنه منهي عن أكل ثمنه وعليه رده إلى مشتريه ، وكذلك قال أصحابنا : إنه إذا تصرف فيه فربح فيه وقد كان عقد عليه بعينة وقبضه أن عليه أن يتصدق به ؛ لأنه ربح حصل له من وجه محظور ؛ وقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل منتظم لهذه المعاني كلها ونظائرها من العقود المحرمة .

فإن قيل : هل اقتضى ظاهر الآية تحريم أكل الهبات والصدقات والإباحة للمال من صاحبه ؟

قيل له : كل ما أباحه الله تعالى من العقود وأطلقه من جواز أكل مال الغير بإباحته إياه فخارج عن حكم الآية ؛ لأن الحظر في أكل المال مقيد بشريطة وهي أن يكون أكل مال بالباطل ، وما أباحه الله تعالى وأحله فليس بباطل بل هو حق ؛ فنحتاج أن ننظر إلى السبب الذي يستبيح أكل هذا المال ، فإن كان مباحا فليس بباطل ولم تتناوله الآية ، وإن كان محظورا فقد اقتضته الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية