وقوله تعالى :
لتحكم بين الناس بما أراك الله ربما احتج
[ ص: 265 ] به من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول شيئا من طريق الاجتهاد ، وإن أقواله وأفعاله كلها كانت تصدر عن النصوص ، وإنه كقوله تعالى :
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وليس في الآيتين دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول شيئا من طريق الاجتهاد وذلك ؛ لأنا نقول : إن ما صدر عن اجتهاد فهو مما أراه الله وعرفه إياه ومما أوحى به إليه أن يفعله ، فليس في الآية دلالة على نفي
الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام .
وقد قيل في قوله تعالى :
ولا تكن للخائنين خصيما إنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم دفع عنهم ، وجائز أن يكون هم بالدفع عنهم ميلا منه إلى المسلمين دون اليهودي ؛ إذ لم يكن عنده أنهم غير محقين ؛ وإذا كان ظاهر الحال وجود الدرع عند اليهودي فكان اليهودي أولى بالتهمة والمسلم أولى ببراءة الساحة ، فأمره الله تعالى بترك الميل إلى أحد الخصمين والدفع عنه وإن كان مسلما والآخر يهوديا ، فصار ذلك أصلا في أن
الحاكم لا يكون له ميل إلى أحد الخصمين على الآخر وإن كان أحدهما ذا حرمة له والآخر على خلافه .
وهذا يدل أيضا على أن
وجود السرقة في يد إنسان لا يوجب الحكم عليه بها ؛ لأن الله تعالى نهاه عن الحكم على اليهودي بوجود السرقة عنده ؛ إذ كان جاحدا أن يكون هو الآخذ . وليس ذلك مثل ما فعله
يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه ، ثم أخذه بالصاع واحتبسه عنده ؛ لأنه إنما حكم عليهم بما كان عندهم أنه جائز ، وكانوا يسترقون السارق ، فاحتبسه عنده ؛ وكان له أن يتوصل إلى ذلك ولم يسترقه ، ولا قال إنه سرق ، وإنما قال ذلك رجل غيره ظنه سارقا .
وقد نهى الله عن
الحكم بالظن والهوى بقوله :
اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=687880إياكم والظن فإنه أكذب الحديث . وقوله :
ولا تكن للخائنين خصيما وقوله :
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم جائز أن يكون صادف ميلا من النبي صلى الله عليه وسلم على اليهودي بوجود الدرع المسروقة في داره ، وجائز أن يكون هم بذلك ، فأعلمه الله براءة ساحة اليهودي ونهاه عن مجادلته عن المسلمين الذين كانوا يجادلون عن السارق .
وقد كانت هذه الطائفة شاهدة للخائن بالبراءة سائلة للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعذره في أصحابه وأن ينكر ذلك على من ادعى عليه ، فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أظهر معاونته لما ظهر من هذه الطائفة من الشهادة ببراءته وأنه ليس ممن يتهم بمثله ، فأعلمه الله باطن أمورهم بقوله :
ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك بمسألتهم معونة هذا الخائن .
وقد قيل
[ ص: 266 ] إن هذه الطائفة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأعانوا الخائن كانوا مسلمين ولم يكونوا أيضا على يقين من أمر الخائن وسرقته ، ولكنه لم يكن لهم الحكم جائزا على اليهودي بالسرقة لأجل وجود الدرع في داره
فإن قيل : كيف يكون الحكم على ظاهر الحال ضلالا إذا كان في الباطن خلافه ، وإنما على الحاكم الحكم بالظاهر دون الباطن ؟ قيل له : لا يكون الحكم بظاهر الحال ضلالا وإنما الضلال إبراء الخائن من غير حقيقة علم ، فإنما اجتهدوا أن يضلوه عن هذا المعنى .