وقوله تعالى :
إني جاعلك للناس إماما فإن الإمام من يؤتم به في أمور الدين من طريق النبوة ، وكذلك سائر الأنبياء أئمة عليهم السلام لما ألزم الله تعالى الناس من اتباعهم والائتمام بهم في أمور دينهم ؛ فالخلفاء أئمة ؛ لأنهم رتبوا في المحل الذي يلزم الناس اتباعهم وقبول قولهم وأحكامهم ، والقضاة والفقهاء أئمة أيضا ، ولهذا المعنى الذي يصلي بالناس يسمى إماما ؛ لأن من دخل في صلاته لزمه الاتباع له والائتمام به .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650680إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به ؛ فإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=30121لا تختلفوا على إمامكم فثبت بذلك أن اسم الإمامة مستحق لمن يلزم اتباعه والاقتداء به في أمور الدين أو في شيء منها وقد يسمى بذلك من يؤتم به في الباطل ، إلا أن الإطلاق لا يتناوله ، قال الله تعالى
وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار فسموا أئمة ؛ لأنهم أنزلوهم بمنزلة من يقتدى بهم في أمور الدين وإن لم يكونوا أئمة يجب الاقتداء بهم كما قال الله تعالى :
فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون وقال :
وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا يعني في زعمك واعتقادك وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=709015أخوف ما أخاف على أمتي أئمة مضلون والإطلاق إنما يتناول
من يجب الائتمام به في دين الله تعالى وفي الحق
[ ص: 85 ] والهدى .
ألا ترى أن قوله تعالى :
إني جاعلك للناس إماما قد أفاد ذلك من غير تقييد ، وأنه لما ذكر أئمة الضلال قيده بقوله
يدعون إلى النار
وإذا ثبت أن اسم الإمامة يتناول ما ذكرناه ، فالأنبياء عليهم السلام في أعلى رتبة الإمامة ، ثم الخلفاء الراشدون بعد ذلك ، ثم العلماء والقضاة العدول ومن ألزم الله تعالى الاقتداء بهم ، ثم الإمامة في الصلاة ونحوها ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية عن
إبراهيم عليه السلام أنه جاعله للناس إماما وأن
إبراهيم سأله أن يجعل من ولده أئمة بقوله :
ومن ذريتي ؛ لأنه عطف على الأول فكان بمنزلة " واجعل من ذريتي أئمة " .
ويحتمل أن يريد بقوله
ومن ذريتي مسألته تعريفه هل يكون من ذريتي أئمة ؟ فقال تعالى في جوابه :
لا ينال عهدي الظالمين فحوى ذلك معنيين أنه سيجعل من ذريته أئمة إما على وجه تعريفه ما سأله أن يعرفه إياه ، وإما على وجه إجابته إلى ما سأل لذريته إذا كان قوله
ومن ذريتي مسألته أن يجعل من ذريته أئمة ، وجائز أن يكون أراد الأمرين جميعا ، وهو مسألته أن يجعل من ذريته أئمة وأن يعرفه ذلك ، وأنه إجابة إلى مسألته ؛ لأنه لو لم يكن منه إجابة إلى مسألته لقال : " ليس في ذريتك أئمة " وقال : " لا ينال عهدي من ذريتك أحد " فلما قال :
لا ينال عهدي الظالمين دل على أن الإجابة قد وقعت له في أن في ذريته أئمة ، ثم قال :
لا ينال عهدي الظالمين فأخبر أن الظالمين من ذريته لا يكونون أئمة ولا يجعلهم موضع الاقتداء بهم وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في قوله تعالى :
لا ينال عهدي الظالمين أنه النبوة .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : أنه أراد أن الظالم لا يكون إماما ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : " لا يلزم الوفاء بعهد الظالم ، فإذا عقد عليك في ظلم فانقضه " . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن : " ليس لهم عند الله عهد يعطيهم عليه خيرا في الآخرة " .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبو بكر جميع ما روي من هذه المعاني يحتمله اللفظ ، وجائز أن يكون جميعه مرادا لله تعالى ، وهو محمول على ذلك عندنا ، فلا يجوز أن يكون الظالم نبيا ولا خليفة لنبي ولا قاضيا ، ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين من مفت أو شاهد أو مخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا فقد أفادت الآية أن شرط جميع من كان في محل الائتمام به في أمر الدين العدالة والصلاح ، وهذا يدل أيضا على أئمة الصلاة ينبغي أن يكونوا صالحين غير فساق ولا ظالمين لدلالة الآية على
شرط العدالة لمن نصب منصب الائتمام به في أمور الدين ؛ لأن عهد الله هو أوامره ، فلم يجعل قبوله عن الظالمين منهم وهو ما أودعهم من أمور دينه وأجاز قولهم فيه وأمر الناس بقبوله منهم والاقتداء بهم فيه .
ألا ترى إلى قوله تعالى :
ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا [ ص: 86 ] الشيطان إنه لكم عدو مبين يعني أقدم إليكم الأمر به ؛ وقال تعالى :
الذين قالوا إن الله عهد إلينا ومنه عهد الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم إنما هو ما يتقدم به إليهم ليحملوا الناس عليه ويحكموا به فيهم ؛ وذلك لأن عهد الله إذا كان إنما هو أوامره لم يخل قوله :
لا ينال عهدي الظالمين من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين أو أن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله تعالى وأحكامه ولا يؤمنون عليها ؛ فلما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر الله تعالى لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم وأنهم إنما استحقوا سمة الظلم لتركهم أوامر الله ، ثبت الوجه الآخر وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها ، فلا يكونون أئمة في الدين ، فثبت بدلالة هذه الآية بطلان
إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة ، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته .
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=30912لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ودل أيضا على أن
الفاسق لا يكون حاكما ، وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولي الحكم ، وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا فتياه إذا كان مفتيا ، وأنه لا يقدم للصلاة ، وإن كان لو قدم واقتدى به مقتد كانت صلاته ماضية فقد حوى قوله :
لا ينال عهدي الظالمين هذه المعاني كلها ومن الناس من يظن أن مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة تجويز
إمامة الفاسق وخلافته وأنه يفرق بينه وبين الحاكم فلا يجيز حكمه ، وذكر ذلك عن بعض
المتكلمين وهو المسمى
زرقان وقد كذب في ذلك وقال بالباطل ، وليس هو أيضا ممن تقبل حكايته ولا فرق عند
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة بين القاضي وبين الخليفة في أن شرط كل واحد منهما العدالة ، وأن الفاسق لا يكون خليفة ولا يكون حاكما ؛ كما لا تقبل شهادته ولا خبره لو روى خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكيف يكون خليفة وروايته غير مقبولة وأحكامه غير نافذة وكيف يجوز أن يدعى ذلك على
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة وقد أكرهه
ابن هبيرة في أيام
بني أمية على القضاء وضربه فامتنع من ذلك وحبس فلج
ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطا .
فلما خيف عليه قال له الفقهاء : فتول شيئا من أعماله أي شيء كان حتى يزول عنك هذا الضرب فتولى له عد أحمال التبن الذي يدخل ، فخلاه ، ثم دعاه
المنصور إلى مثل ذلك فأبى ، فحبسه حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور
مدينة بغداد وكان مذهبه مشهورا في قتال الظلمة وأئمة الجور ، ولذلك قال
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي : " احتملنا
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف يعني قتال الظلمة فلم نحتمله ، وكان من
[ ص: 87 ] قوله : وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول ، فإن لم يؤتمر له فبالسيف ، على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وسأله
إبراهيم الصائغ وكان من فقهاء أهل
خراسان ورواة الأخبار ونساكهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقال : " هو فرض " وحدثه بحديث عن
nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=910400أفضل الشهداء nindex.php?page=showalam&ids=135حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتل . فرجع
إبراهيم إلى
مرو وقام إلى
أبي مسلم صاحب الدولة فأمره ونهاه وأنكر عليه ظلمه وسفكه الدماء بغير حق ، فاحتمله مرارا ثم قتله .
وقضيته في أمر
زيد بن علي مشهورة وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سرا في وجوب نصرته والقتال معه وكذلك أمره مع
محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن ، وقال
لأبي إسحاق الفزاري حين قال له : لم أشرت على أخي بالخروج مع
إبراهيم حتى قتل ؟ قال : مخرج أخيك أحب إلي من مخرجك " .
وكان
أبو إسحاق قد خرج إلى
البصرة ، وهذا إنما أنكره عليه أغمار أصحاب الحديث الذين بهم فقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تغلب الظالمون على أمور الإسلام ، فمن كان هذا مذهبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف يرى إمامة الفاسق ؟ فإنما جاء غلط من غلط في ذلك ، إن لم يكن تعمد الكذب من جهة قوله وقول سائر من يعرف قوله من
العراقيين ، أن
القاضي إذا كان عدلا في نفسه فولي القضاء من قبل إمام جائر أن أحكامه نافذة وقضاياه صحيحة وأن الصلاة خلفهم جائزة مع كونهم فساقا وظلمة ، وهذا مذهب صحيح ولا دلالة فيه على أن من مذهبه إمامة الفاسق ، وذلك لأن القاضي إذا كان عدلا فإنما يكون قاضيا بأن يمكنه تنفيذ الأحكام وكانت له يد وقدرة على من امتنع من قبول أحكامه حتى يجبره عليها ، ولا اعتبار في ذلك بمن ولاه ؛ لأن الذي ولاه إنما هو بمنزلة سائر أعوانه .
وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولا ؛ ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعوانا له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذا وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان ؟ وعلى هذا تولى
nindex.php?page=showalam&ids=16097شريح وقضاة التابعين القضاء من قبل
بني أمية ، وقد كان
nindex.php?page=showalam&ids=16097شريح قاضيا
بالكوفة إلى أيام
الحجاج ، ولم يكن في
العرب ولا آل
مروان أظلم ولا أكفر ولا أفجر من
عبد الملك ، ولم يكن في عماله أكفر ولا أظلم ولا أفجر من
الحجاج وكان
عبد الملك أول من قطع ألسنة الناس في الأمر بالمعروف
[ ص: 88 ] والنهي عن المنكر ، صعد المنبر فقال : " إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف يعني
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان ولا بالخليفة المصانع يعني
nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية وإنكم تأمروننا بأشياء تنسونها في أنفسكم ؛ والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه " وكانوا يأخذون الأرزاق من بيوت أموالهم وقد كان المختار الكذاب يبعث إلى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=12691ومحمد ابن الحنفية nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر بأموال ، فيقبلونها ، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=17000محمد بن عجلان عن
القعقاع قال : كتب
عبد العزيز بن مروان إلى
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر " ارفع إلي حوائجك " فكتب إليه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=651338إن اليد العليا خير من اليد السفلى وأحسب أن اليد العليا يد المعطي وأن اليد السفلى يد الآخذ ، وإني لست سائلك شيئا ولا رادا عليك رزقا رزقنيه الله منك ، والسلام وقد كان
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي وسائر التابعين يأخذون أرزاقهم من أيدي هؤلاء الظلمة ، لا على أنهم كانوا يتولونهم ولا يرون إمامتهم ، وإنما كانوا يأخذونها على أنها حقوق لهم في أيدي قوم فجرة .
وكيف يكون ذلك على وجه موالاتهم وقد ضربوا وجه
الحجاج بالسيف ، وخرج عليه من القراء أربعة آلاف رجل هم خيار التابعين وفقهاؤهم فقاتلوه مع
عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالأهواز ثم
بالبصرة ثم
بدير الجماجم من ناحية الفرات بقرب
الكوفة وهم خالعون
لعبد الملك بن مروان لاعنون لهم متبرئون منهم وكذلك كان سبيل من قبلهم مع
nindex.php?page=showalam&ids=33معاوية حين تغلب على الأمر بعد قتل
nindex.php?page=showalam&ids=8علي عليه السلام وقد كان
nindex.php?page=showalam&ids=35الحسن nindex.php?page=showalam&ids=17والحسين يأخذان العطاء وكذلك من كان في ذلك العصر من الصحابة وهم غير متولين له بل متبرئون منه على السبيل التي كان عليها
nindex.php?page=showalam&ids=8علي عليه السلام إلى أن توفاه الله تعالى إلى جنته ورضوانه .
فليس إذا في ولاية القضاء من قبلهم ولا أخذ العطاء منهم دلالة على توليتهم واعتقاد إمامتهم وربما احتج بعض أغبياء
الرفضة بقوله تعالى :
لا ينال عهدي الظالمين في رد إمامة
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر رضي الله عنه
nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر رضي الله عنه ؛ لأنهما كانا ظالمين حين كانا مشركين في الجاهلية وهذا جهل مفرط ؛ لأن هذه السمة إنما تلحق من كان مقيما على الظلم ، فأما التائب منه فهذه السمة زائلة عنه ، فلا جائز أن يتعلق به حكم ؛ لأن الحكم إذا كان معلقا بصفة فزالت الصفة زال الحكم ، وصفة الظلم صفة ذم ، فإنما يلحقه ما دام مقيما عليه ، فإذا زال عنه زالت الصفة عنه ؛ كذلك يزول عنه الحكم الذي علق به من نفي نيل العهد في قوله تعالى :
لا ينال عهدي الظالمين ألا ترى أن قوله تعالى
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا إنما هو نهي عن الركون إليهم ما أقاموا على الظلم ؟
[ ص: 89 ] وكذلك قوله تعالى :
ما على المحسنين من سبيل إنما هو ما أقاموا على الإحسان فقوله :
لا ينال عهدي الظالمين لم ينف به العهد عمن تاب عن ظلمه ؛ لأنه في هذه الحالة لا يسمى ظالما كما لا يسمى موسوما من تاب من الكفر كافرا .
ومن تاب من الفسق فاسقا ، وإنما يقال : كان كافرا ، وكان فاسقا ، وكان ظالما ؛ والله تعالى لم يقل : " لا ينال عهدي من كان ظالما " وإنما نفى ذلك عمن كان موسوما بسمة الظالم ، والاسم لازم له باق عليه .