وقوله عز وجل :
يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات اسم الطيبات يتناول معنيين : أحدهما : الطيب المستلذ ، والآخر : الحلال وذلك لأن ضد الطيب هو الخبيث ، والخبيث حرام ، فإذا الطيب حلال ؛ والأصل فيه الاستلذاذ ، فشبه الحلال به في انتفاء المضرة منهما جميعا
؛ وقال تعالى :
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات يعني الحلال ، وقال :
ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فجعل الطيبات في مقابلة الخبائث ، والخبائث هي المحرمات ؛ وقال تعالى :
فانكحوا ما طاب لكم من النساء وهو يحتمل : ما حل لكم ، ويحتمل : ما استطبتموه .
فقوله :
قل أحل لكم الطيبات جائز أن يريد به ما استطبتموه واستلذذتموه مما لا ضرر عليكم في تناوله
[ ص: 308 ] من طريق الدين ، فيرجع ذلك إلى معنى الحلال الذي لا تبعة على متناوله ، وجائز أن يحتج بظاهره في
إباحة جميع الأشياء المستلذة إلا ما خصه الدليل .
وما علمتم من الجوارح حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13433عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا
يعقوب بن غيلان العماني قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17259هناد بن السري قال : حدثنا
يحيى بن زكريا قال : حدثنا
إبراهيم بن عبيد قال : حدثني
أبان بن صالح عن
القعقاع بن حكيم عن
سلمى عن
أبي رافع قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=935324أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل الكلاب ، فقال الناس : يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فأنزل الله : قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح الآية .
حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13433عبد الباقي قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16408عبد الله بن أحمد بن حنبل وابن عبدوس بن كامل قالا : حدثنا
عبيد الله بن عمر الجشمي قال : حدثنا
أبو معشر النواء قال : حدثنا
عمرو بن بشير قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=14577عامر الشعبي عن
nindex.php?page=showalam&ids=76عدي بن حاتم قال :
لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلاب لم يدر ما يقول لي حتى نزلت : وما علمتم من الجوارح مكلبين .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبو بكر : قد اقتضى ظاهر هذا الحديث الأول أن تكون الإباحة تناولت ما علمنا من الجوارح ، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير ، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع بها ، فدل على جواز
بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه الانتفاع إلا ما خصه الدليل وهو الأكل . ومن الناس من يجعل في الكلام حذفا ، فجعله بمنزلة : قل أحل لكم الطيبات من صيد ما علمتم من الجوارح ؛ ويستدل عليه بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=76عدي بن حاتم الذي ذكرناه حين سأل عن صيد الكلاب فأنزل الله تعالى :
وما علمتم من الجوارح مكلبين وحديث
أبي رافع فيه أنه سئل عما أحل من الكلاب التي أمروا بقتلها فأنزل الله تعالى الآية ؛ وليس يمتنع أن تكون الآية منتظمة لإباحة الانتفاع بالكلاب وبصيدها جميعا ، وحقيقة اللفظ تقتضي الكلاب أنفسها ؛ لأن قوله :
وما علمتم يوجب إباحة ما علمنا ، وإضمار الصيد فيه يحتاج إلى دلالة ، وفي فحوى الآية دليل على إباحة صيدها أيضا وهو قوله :
فكلوا مما أمسكن عليكم فحمل الآية على المعنيين واستعمالها فيهما على الفائدتين أولى من الاقتصار على أحدهما .
وقد دلت الآية أيضا على أن شرط إباحة الجوارح أن تكون متعلمة ، لقوله :
وما علمتم من الجوارح وقوله :
تعلمونهن مما علمكم الله وأما الجوارح فإنه قد قيل إنها الكواسب للصيد على أهلها ، وهي الكلاب وسباع الطير التي تصطاد وغيرها ، واحدها " جارح " ومنه سميت الجارحة لأنه يكسب بها ، قال الله تعالى :
ما جرحتم بالنهار [ ص: 309 ] يعني : ما كسبتم ؛ ومنه :
أم حسب الذين اجترحوا السيئات ؛ وذلك يدل على جواز
الاصطياد بكل ما علم الاصطياد من سائر ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير .
وقيل في الجوارح إنها ما تجرح بناب أو مخلب ، قال
محمد في الزيادات :
إذا صدم الكلب الصيد ولم يجرحه فمات لم يؤكل ؛ لأنه لم يجرح بناب أو مخلب ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى :
وما علمتم من الجوارح مكلبين فإنما يحل صيد ما يجرح بناب أو مخلب . وإذا كان الاسم يقع عليهما فليس يمتنع أن يكونا مرادين باللفظ ، فيريد بالكواسب ما يكسب بالاصطياد فيفيد الأصناف التي يصطاد بها من الكلاب والفهود وسباع الطير وجميع ما يقبل التعليم ، ويفيد مع ذلك في
شرط الذكاة وقوع الجراحة بالمقتول من الصيد وأن ذلك شرط ذكاته .
ويدل أيضا على أن الجراحة مرادة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في المعراض أنه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=670455إن خزق بحده فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل ومتى وجدنا للنبي صلى الله عليه وسلم حكما يواطئ معنى ما في القرآن ، وجب حمل مراد القرآن عليه وأن ذلك مما أراد الله تعالى به .
وقوله تعالى :
مكلبين قد قيل فيه وجهان :
أحدهما : أن المكلب هو صاحب الكلب الذي يعلمه الصيد ويؤدبه .
وقيل معناه : مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب ؛ والتكليب هو التضرية يقال : كلب كلب إذا ضرى بالناس . وليس في قوله :
مكلبين تخصيص للكلاب دون غيرها من الجوارح ؛ إذ كانت التضرية عامة فيهن ، وكذلك إن أراد به تأديب الكلب وتعليمه كان ذلك عموما في سائر الجوارح .
وقد اختلف
السلف فيما قتلته الجوارح غير الكلب ، فروى
مروان العمري عن
nindex.php?page=showalam&ids=17191نافع عن
nindex.php?page=showalam&ids=16600علي بن الحسين قال : " الصقر والبازي من الجوارح مكلبين " .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17124معمر عن
nindex.php?page=showalam&ids=16861ليث قال : سئل
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد عن البازي والفهد وما يصاد به من السباع ، فقال : " هذه كلها جوارح " . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد في قوله تعالى :
من الجوارح مكلبين قال : " الطير والكلاب " . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17124معمر عن
nindex.php?page=showalam&ids=13314ابن طاوس عن أبيه :
وما علمتم من الجوارح مكلبين قال : " الجوارح الكلاب وما تعلم من البزاة والفهود " . وروى
أشعث عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن :
وما علمتم من الجوارح مكلبين قال : " الصقر والبازي والفهد بمنزلة الكلب " .
وروى
صخر بن جويرية عن
nindex.php?page=showalam&ids=17191نافع قال : وجدت في كتاب
nindex.php?page=showalam&ids=8لعلي بن أبي طالب قال : " لا يصلح أكل ما قتلته البزاة " .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
nindex.php?page=showalam&ids=17191نافع قال : قال
عبد الله : " فأما ما صاد من الطير البزاة وغيرها فما أدركت ذكاته فذكيته فهو لك وإلا فلا تطعمه " .
وروى
سلمة بن علقمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=17191نافع أن
nindex.php?page=showalam&ids=8عليا كره ما قتلت
[ ص: 310 ] الصقور . وروى
أبو بشر عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد أنه كان يكره صيد الطير ويقول :
مكلبين إنما هي الكلاب .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبو بكر : فتأول بعضهم قوله :
مكلبين على الكلاب خاصة ، وتأوله بعضهم على الكلاب وغيرها ؛ ومعلوم أن قوله تعالى :
وما علمتم من الجوارح شامل للطير والكلاب ، ثم قوله :
مكلبين محتمل لأن يريد به الكلاب ويحتمل أن يريد به جميع ما تقدم ذكره من الجوارح والكلاب منها ، ويكون قوله :
مكلبين بمعنى مؤدبين أو مضرين ، ولا يخصص ذلك بالكلاب دون غيرها ؛ فوجب حمله على العموم وأن لا يخصص بالاحتمال .
ولا نعلم خلافا بين فقهاء الأمصار في
إباحة صيد الطير وإن قتل وأنه كصيد الكلب ؛ قال أصحابنا
nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : " ما علمت من كل ذي مخلب من الطير وذي ناب من السباع فإنه لا يجوز صيده " . وظاهر الآية يشهد لهذه المقالة ؛ لأنه أباح صيد الجوارح ، وهو مشتمل على جميع ما يجرح بناب أو بمخلب وعلى ما يكسب على أهله بالاصطياد لم يفرق فيه بين الكلب وبين غيره .
وقوله تعالى :
وما علمتم من الجوارح مكلبين يدل على أن شرط إباحة صيد هذه الجوارح أن تكون معلمة وأنها إذا لم تكن معلمة فقتلت لم يكن مذكى وذلك ؛ لأن الخطاب خرج على سؤال السائلين عما يحل من الصيد ، فأطلق لهم إباحة صيد الجوارح المعلمة ، وذلك شامل لجميع ما شملته الإباحة وانتظمه الإطلاق ؛ لأن السؤال وقع عن جميع ما يحل لهم من الصيد فخص الجواب بالأوصاف المذكورة ، فلا تجوز استباحة شيء منه إلا على الوصف المذكور .
ثم قال تعالى :
تعلمونهن مما علمكم الله فروي عن
سلمان وسعد أن تعليمه أن يضرى على الصيد ويعود إلى إلف صاحبه حتى يرجع إليه ولا يهرب عنه . وكذلك قال
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=15990وسعيد بن المسيب ، ولم يشرطوا فيه ترك الأكل . وروي عن غيرهما أن ذلك من تعليم الكلب ، وأن من شرط إباحة صيده أن لا يأكل منه ، فإن أكل منه لم يؤكل ؛ وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=76وعدي بن حاتم nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة ؛ وقالوا جميعا في صيد البازي إنه يؤكل وإن أكل منه ؛ وإنما تعليمه أن تدعوه فيجيبك .