فصل قوله تعالى :
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية ، يدل على أن
الاستنجاء ليس بفرض وأن الصلاة جائزة مع تركه إذا لم يتعد الموضع وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فأجاز أصحابنا صلاته وإن كان مسيئا في تركه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : ( لا يجزيه إذا تركه رأسا ) . وظاهر الآية يدل على صحة القول الأول . وروي في التفسير أن معناه : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ؛ وقال في نسق الآية :
أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فحوت هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا :
أحدهما : إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء ، وإباحة الصلاة به ؛ وموجب الاستنجاء فرضا مانع ما أباحته الآية وذلك يوجب النسخ ، وغير جائز نسخ الآية إلا بما يوجب العلم من النقل المتواتر وذلك غير معلوم في إيجاب الاستنجاء . ومع ذلك فإنهم متفقون على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها ثابتة الحكم ، وفي اتفاقهم على ذلك ما يبطل قول موجبي الاستنجاء فرضا .
والوجه الآخر من دلالة الآية : قوله تعالى :
أو جاء أحد منكم من الغائط إلى آخرها ؛ فأوجب التيمم على من جاء من الغائط ، وذلك كناية عن قضاء الحاجة ، فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء ، فدل ذلك على أنه غير فرض ويدل عليه من جهة السنة حديث
علي بن يحيى بن خلاد عن
[ ص: 367 ] أبيه عن عمه
رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=86062لا تتم صلاة أحدكم حتى يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه فأباح صلاته بعد غسل هذه الأعضاء مع ترك الاستنجاء . ويدل عليه أيضا حديث
الحصين الحراني عن
أبي سعيد عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=671955من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ، ومن اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج فنفى الحرج عن تارك الاستجمار ، فدل على أنه ليس بفرض .
فإن قيل : إنما نفى الحرج عن تاركه إلى الماء . قيل له : هذا خطأ من وجهين :
أحدهما : أنه أجاز تركه من غير استعمال الماء ، ومن ادعى تركه إلى الاستنجاء بالماء فإنما خصه بغير دلالة .
والثاني : أنه تسقط فائدته ؛ لأنه معلوم أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالأحجار ، فغير جائز أن ينفي الحرج عن فاعل الأفضل ، هذا ممتنع مستحيل لا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كان وضعا للكلام في غير موضعه .
فإن قيل : في حديث
سلمان :
nindex.php?page=hadith&LINKID=72158نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجتزئ بدون ثلاثة أحجار ، وروت
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=63407فليستنج بثلاثة أحجار وأمره على الوجوب ، فيحمل قوله : ( فلا حرج ) على ما لا يسقط إيجاب الأمر ، وهو أن يكون إنما نفى الحرج عمن لم يستجمر وترا ويفعله شفعا ، لا بأن يتركه أصلا ، أو على أن يتركه إلى الماء ليسلم لنا مقتضى الأمر من الإيجاب . قيل له : بل نجمع بينهما ونستعملهما ولا نسقط أحدهما بالآخر ، فنجعل أمره بالاستنجاء ونهيه عن تركه على الندب ، ونستعمل معه قوله صلى الله عليه وسلم : ( ومن لا فلا حرج ) في نفي الإيجاب ؛ ولو استعمل على ما ذكرت كان فيه إسقاط أحدهما أصلا ، لا سيما إذا كان خبرنا موافقا لما تضمنه نص الآية من دلالتها على جواز الصلاة مع تركه . ويدل على أنه غير فرض وعلى جواز الصلاة مع تركه اتفاق الجميع على جواز
صلاة المستنجي بالأحجار مع وجود الماء وعدم الضرورة في العدول عنه إلى الأحجار ، ولو كان الاستنجاء فرضا لكان الواجب أن يكون بالماء دون الأحجار ، كسائر البدن إذا أصابته نجاسة كثيرة لا تجوز الصلاة بإزالتها بالأحجار دون غسلها بالماء إذا كان موجودا ؛ وفي ذلك دليل على أن هذا القدر من النجاسة معفو عنه .
فإن قيل : أنت تجيز فرك المني من الثوب إذا كان يابسا ولم يدل ذلك على جواز الصلاة مع تركه إذا كان كثيرا ، فكذلك موضع الاستنجاء مخصوص بجواز الصلاة مع إزالته بالأحجار . قيل له : إنما أجزنا ذلك في المني وإن كان نجسا لخفة حكمه في نفسه ، ألا ترى أنه لا يختلف حكمه في أي موضع أصابه من ثوبه
[ ص: 368 ] في جواز فركه ؟ فأما بدن الإنسان فلا يختلف حكم شيء منه في عدم جواز إزالة النجاسة عنه بغير ما يزيله من الماء وسائر المائعات ، وكذلك حكم النجاسة التي على موضع الاستنجاء لا يختلف في تغليظ حكمها ، فواجب أن لا يختلف حكمها في ذلك الموضع وفي سائر البدن . وكذلك إن سألونا عن حكم النجاسة التي لها جرم قائم في الخف أنه يطهر بالدلك بعد الجفاف ولو أصابت البدن لم يزلها إلا الغسل . فيقال لهم : إنما اختلفنا لاختلاف حال جرم الخف وبدن الإنسان في كون جرم الخف مستخصفا غير ناشف لما يحصل فيه من الرطوبة إلى نفسه ، وجرم النجاسة سخيف متخلخل ينشف الرطوبة الحاصلة في الخف إلى نفسها ، فإذا حكت لم يبق منها إلا اليسير الذي لا حكم له ، فصار اختلاف أحكامها في الحك والفرك والغسل متعلقا إما بنفس النجاسة لخفتها وإما بما تحله النجاسة في إمكان إزالتها عنه بغير الماء ، كما نقول في السيف إذا أصابه دم فمسحه إنه يجزي لأن جرم السيف لا يقبل النجاسة فينشفها إلى نفسه ، فإذا أزيل ما على ظاهره لم يبق هناك إلا ما لا حكم له .