باب في
النهي عن كتمان العلم قال الله تعالى :
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية . وقال في موضع آخر :
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا الآية وقال :
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه هذه الآي كلها موجبة لإظهار علوم الدين وتبيينه للناس زاجرة عن كتمانها ، ومن حيث دلت على لزوم بيان المنصوص عليه فهي موجبة أيضا لبيان المدلول عليه منه ، وترك كتمانه لقوله تعالى :
يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى وذلك يشتمل على سائر أحكام الله في المنصوص عليه والمستنبط لشمول اسم الهدى للجميع .
وقوله تعالى :
يكتمون ما أنزل الله من الكتاب يدل على أنه لا فرق في ذلك بين ما علم من جهة النص أو الدليل ؛ لأن في الكتاب الدلالة على أحكام الله تعالى كما فيه النص عليها . وكذلك قوله تعالى :
لتبيننه للناس ولا تكتمونه [ ص: 124 ] عام في الجميع . وكذلك ما علم من طرق إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم قد انطوت تحت الآية ؛ لأن في الكتاب الدلالة على قبول أخبار الآحاد عنه صلى الله عليه وسلم فكل ما اقتضى الكتاب إيجاب حكمه من جهة النص أو الدلالة فقد تناولته الآية .
ولذلك قال
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : " لولا آية في كتاب الله عز وجل ما حدثتكم " ثم تلا :
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى فأخبر أن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى الذي أنزله الله تعالى وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16102شعبة عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة في قوله تعالى :
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب الآية : " فهذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ، فمن علم علما فليعلمه ، وإياكم وكتمان العلم فإن كتمانه هلكة " .
ونظيره في بيان العلم وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه قوله تعالى :
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وقد روى
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16568عطاء ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=688549من كتم علما يعلمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار
فإن قيل : روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن الآية نزلت في شأن
اليهود حين كتموا ما في كتبهم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : نزول الآية على سبب غير مانع من اعتبار عمومها في سائر ما انتظمته ؛ لأن الحكم عندنا للفظ لا للسبب ، إلا أن تقوم الدلالة عندنا على وجوب الاقتصار به على سببه .
ويحتج بهذه الآيات في
قبول الأخبار المقصرة عن مرتبة إيجاب العلم العام لمخبرها في أمور الدين ؛ وذلك لأن قوله تعالى :
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب وقوله تعالى :
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب قد اقتضى النهي عن الكتمان ووقع البيان بالإظهار ، فلو لم يلزم السامعين قبوله لما كان المخبر عنه مبينا لحكم الله تعالى ؛ إذ ما لا يوجب حكما فغير محكوم له بالبيان ، فثبت بذلك أن المنهيين عن الكتمان متى أظهروا ما كتموا وأخبروا به لزم العمل بمقتضى خبرهم وموجبه .
ويدل عليه قوله في سياق الخطاب :
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فحكم بوقوع العلم بخبرهم فإن قال قائل : لا دلالة فيه على لزوم العمل به ، وجائز أن يكون كل واحد منهم كان منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر الخبر قيل له : هذا غلط ؛ لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه ، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ على التقول فلا يكون خبرهم موجبا للعلم فقد دلت الآثار على قبول الخبر المقصر عن المنزلة الموجبة للعلم بمخبره ، وعلى أن
[ ص: 125 ] ما ادعيته لا برهان عليه ، فظواهر الآي مقتضية لقبول ما أمروا به لوقوع بيان حكم الله تعالى به .
وفي الآية حكم آخر ، وهو أنها من حيث دلت على لزوم
إظهار العلم وترك كتمانه فهي دالة على امتناع جواز
أخذ الأجرة عليه ؛ إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله ، ألا ترى أنه لا يصح استحقاق الأجر على الإسلام ؟ وقد روي
أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إني أعطيت قومي مائة شاة على أن يسلموا ، فقال صلى الله عليه وسلم : المائة شاة رد عليك ، وإن تركوا الإسلام قاتلناهم .
ويدل على ذلك من جهة أخرى قوله تعالى :
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعا ؛ لأن قوله تعالى :
ويشترون به ثمنا قليلا مانع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه ؛ إذ كان الثمن في اللغة هو البدل ، قال
عمر بن أبي ربيعة :
إن كنت حاولت دنيا أو رضيت بها فما أصبت بترك الحج من ثمن
فثبت بذلك بطلان
الإجارة على تعليم القرآن وسائر علوم الدين