باب
أخذ الجزية من أهل الكتاب قال الله عز وجل :
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم [ ص: 282 ] الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر مع إظهارهم الإيمان بالنشور والبعث ، وذلك يحتمل وجوها :
أحدها : أن يكون مراده لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي يجري حكم الله فيه من تخليد
أهل الكتاب في النار ، وتخليد المؤمنين في الجنة ، فلما كانوا غير مؤمنين بذلك أطلق القول فيهم بأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ، ومراده حكم يوم الآخر ، وقضاؤه فيه ، كما تقول
أهل الكتاب غير مؤمنين بالنبي ، والمراد بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : فيه إنه أطلق ذلك فيهم على طريق الذم ؛ لأنهم بمنزلة من لا يقر به في عظم الجرم ، كما إنهم بمنزلة المشركين في عبادة الله تعالى بكفرهم الذي اعتقدوه . وقيل : أيضا لما كان إقرارهم عن غير معرفة لم يكن ذلك إيمانا ، وأكثرهم بهذه الصفة . وقوله تعالى :
ولا يدينون دين الحق فإن دين الحق هو الإسلام ، قال الله تعالى :
إن الدين عند الله الإسلام وهو التسليم لأمر الله ، وما جاءت به رسله ، والانقياد له ، والعمل به ، والدين ينصرف على وجوه : منها الطاعة ، ومنها القهر ، ومنها الجزاء ؛ قال
الأعشى :
هو دان الرباب اذكر هو الد دين دراكا بغزوة وصيال
يعني : قهر الرباب إذ كرهوا طاعته وأبوا الانقياد له . وقوله تعالى :
مالك يوم الدين قيل : إنه يوم الجزاء ، ومنه : كما تدين تدان .
ودين
اليهود والنصارى غير دين الحق ؛ لأنهم غير منقادين لأمر الله ولا طائعين له لجحودهم نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : فهم يدينون بدين التوراة والإنجيل ، معترفون به منقادين له . قيل له : في التوراة والإنجيل ذكر نبينا ، وأمرنا بالإيمان واتباع شرائعه ، وهم غير عاملين بذلك بل تاركون له ، فهم غير متبعين دين الحق ، وأيضا فإن شريعة التوراة والإنجيل قد نسخت ، والعمل بها بعد النسخ ضلال فليس هو إذا دين الحق . وأيضا فهم قد غيروا المعاني وحرفوها عن مواضعها ، وأزالوها إلى ما تهواه أنفسهم دون ما أوجبه عليهم كتاب الله تعالى ، فهم غير دائنين دين الحق . قوله تعالى :
من الذين أوتوا الكتاب فإن
أهل الكتاب من الكفار هم
اليهود والنصارى لقوله تعالى :
أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فلو كان
المجوس أو غيرهم من أهل الشرك من
أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف ، وقد اقتضت الآية أن أهل الكتاب طائفتان ؛ وقد بيناه فيما سلف . وتقدم الكلام أيضا في
حكم الصابئين ، وهل هم أهل الكتاب [ ص: 283 ] أم لا ، وهم فريقان :
أحدهما : بنواحي
كسكر والبطائح ، وهم فيما بلغنا صنف من
النصارى ، وإن كانوا مخالفين لهم في كثير من دياناتهم ؛ لأن
النصارى فرق كثيرة منهم
المرقونية والآريوسية ، والمارونية ، والفرق الثلاث من
النسطورية والملكية ، واليعقوبية يبرءون منهم ، ويحرمونهم ، وهم ينتمون إلى
يحيى بن زكريا ، وشيث ، وينتحلون كتبا يزعمون أنها كتب الله التي أنزلها على
شيث بن آدم ، ويحيى بن زكريا ،
، والنصارى تسميهم
يوحناسية ؛ فهذه الفرقة يجعلها
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة رحمه الله من أهل الكتاب ، ويبيح أكل ذبائحهم ، ومناكحة نسائهم . وفرقة أخرى قد تسمت
بالصابئين ، وهم
الحرانيون الذين بناحية
حران ، وهم عبدة الأوثان ، ولا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ، ولا ينتحلون شيئا من كتب الله ، فهؤلاء ليسوا أهل الكتاب . ولا خلاف أن هذه النحلة لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم ، فمذهب
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة في جعله
الصابئين من أهل الكتاب محمول على مراده الفرقة الأولى . وأما
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبو يوسف nindex.php?page=showalam&ids=16908ومحمد فقالا : { إن الصابئين ليسوا أهل الكتاب } ولم يفصلوا بين الفريقين . وقد روي في ذلك اختلاف بين التابعين .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17249هشيم أخبرنا
مطرف قال : كنا عند
الحكم بن عيينة فحدثه رجل عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري أنه كان يقول في
الصابئين هم بمنزلة
المجوس ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن : أليس قد كنت أخبرتكم بذلك ؟ وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16285عباد بن العوام عن
الحجاج عن
القاسم بن أبي بزة عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد قال :
الصابئون قوم من المشركين
والنصارى ليس لهم كتاب ، وكذلك قول
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك بن أنس .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17376يزيد بن هارون عن
حبيب بن أبي حبيب عن
عمرو بن هرم عن
nindex.php?page=showalam&ids=11867جابر بن زيد أنه سئل عن
الصابئين أمن
أهل الكتاب هم وطعامهم ونساؤهم حل للمسلمين ؟ فقال : نعم . وأما
المجوس فليسوا أهل كتاب بدلالة الآية ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=20452سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، وفي ذلك دلالة على أنهم ليسوا أهل كتاب . وقد اختلف أهل العلم فيمن تؤخذ منهم الجزية من الكفار بعد اتفاقهم على جواز إقرار
اليهود والنصارى بالجزية ، فقال أصحابنا : { لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف ، وتقبل من
أهل الكتاب من
العرب ، ومن سائر كفار
العجم الجزية } . وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16337ابن القاسم عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : { أنه تقبل من الجميع الجزية إلا من مشركي
العرب } وقال مالك في
الزنج ، ونحوهم : { إذا سبوا يجبرون على الإسلام } .
وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد أنه قال : يقاتل
أهل الكتاب على الجزية ، وأهل الأوثان على الصلاة ، ، ويحتمل أن يريد به أهل الأوثان من
العرب ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري :
العرب لا يسبون ، وهو إذا سبوا ثم
[ ص: 284 ] تركهم النبي صلى الله عليه وسلم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : { لا تقبل الجزية إلا من
أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما } .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11943أبو بكر : قوله تعالى :
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم يقتضي
قتل سائر المشركين ، فمن الناس من يقول : إن عمومه مقصور على عبدة الأوثان دون أهل الكتاب
والمجوس ؛ لأن الله تعالى قد فرق في اللفظ بين المشركين وبين
أهل الكتاب والمجوس بقوله تعالى :
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا فعطف بالمشركين على هذه الأصناف ، فدل ذلك على أن إطلاق هذا اللفظ يختص بعبدة الأوثان ، وإن كان الجميع من
النصارى ، والمجوس ، والصابئين مشركين ؛ وذلك لأن
النصارى قد أشركت بعبادة الله عبادة
المسيح ، والمجوس مشركون من حيث جعلوا لله ندا مغالبا ، والصابئون فريقان :
أحدهما : عبدة الأوثان ، والآخر لا يعبدون الأوثان ، ولكنهم مشركون في وجوه أخر ، إلا أن إطلاق لفظ المشرك يتناول عبدة الأوثان ، فلم يوجب قوله تعالى :
فاقتلوا المشركين إلا قتل عبدة الأوثان دون غيرهم ، وقال آخرون : لما كان معنى الشرك موجودا في مقالات هذه الفرق من
النصارى والمجوس والصابئين فقد انتظمهم اللفظ ، ولولا ورود آية التخصيص في
أهل الكتاب خصوا من الجملة ، ومن عداهم محمولون على حكم الآية عربا كانوا أو عجما . ولم يختلفوا في جواز
إقرار المجوس بالجزية ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أخبار ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة عن
عمرو أنه سمع
مجالدا يقول : لم يكن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب يأخذ الجزية من
المجوس حتى شهد
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=663883رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك عن
جعفر بن محمد عن أبيه أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر ذكر
المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=20452سنوا بهم سنة أهل الكتاب .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17294يحيى بن آدم عن
المسعودي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة عن
أبي مجلز قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=650378كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر أنه من استقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ومن أحب ذلك من المجوس فهو آمن ومن أبى فعليه الجزية . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16836قيس بن مسلم عن
الحسن بن محمد :
nindex.php?page=hadith&LINKID=28580أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس البحرين يدعوهم إلى الإسلام ، فمن أسلم منهم قبل منه ، ومن أبى ضربت عليه الجزية ، ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي عن
بكار بن قتيبة قال : حدثنا
عبد الرحمن بن عمران قال : حدثنا
عوف كتب
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز إلى
عدي بن أرطاة : أما بعد فاسأل
[ ص: 285 ] nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن ما يقع من قبلنا من الأئمة أن يحولوا بين
المجوس وبين ما يجمعون من النساء اللاتي لا يجمعهن أحد غيرهم ؟ فسأله فأخبره
nindex.php?page=hadith&LINKID=68397أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل من مجوس البحرين الجزية ، وأقرهم على مجوسيتهم ، وعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ على البحرين العلاء بن الحضرمي ، وفعله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17124معمر عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري :
أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل الأوثان على الجزية إلا من كان منهم من العرب . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب :
nindex.php?page=hadith&LINKID=663883أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ، وأن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب أخذها من
مجوس السواد ، وأن
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان أخذها من
بربر . وفي هذه الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من
المجوس ، وفي بعضها أنه أخذها من عبدة الأوثان من غير
العرب ، ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في جواز أخذ الجزية من
المجوس .
وقد نقلت الأمة أخذ
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب الجزية من
مجوس السواد ، فمن الناس من يقول إنما أخذها ؛ لأن
المجوس أهل كتاب ، ويحتج في ذلك بما روى
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة عن
أبي سعيد عن
نصر بن عاصم عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي أن
النبي صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=showalam&ids=1وأبا بكر nindex.php?page=showalam&ids=2وعمر nindex.php?page=showalam&ids=7وعثمان أخذوا الجزية من المجوس ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي : أنا أعلم الناس بهم كانوا أهل كتاب يقرءونه وأهل علم يدرسونه فنزع ذلك من صدورهم .
وقد ذكرنا فيما تقدم من الدلالة على أنهم ليسوا أهل كتاب من جهة الكتاب والسنة . وأما ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي في ذلك أنهم كانوا أهل كتاب ، فإنه إن صحت الرواية فإن المراد أن أسلافهم كانوا أهل كتاب لإخباره بأن ذلك نزع من صدورهم ، فإذا ليسوا أهل كتاب في هذا الكتاب .
ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب ما روي في حديث
الحسن بن محمد أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=28580النبي صلى الله عليه وسلم قال في مجوس البحرين : إن من أبى منهم الإسلام ضربت عليه الجزية ، ولا تؤكل لهم ذبيحة ، ولا تنكح لهم امرأة ، ولو كانوا أهل كتاب لجاز أكل ذبائحهم ، ومناكحة نسائهم ؛ لأن الله تعالى قد أباح ذلك من
أهل الكتاب . ولما ثبت
nindex.php?page=hadith&LINKID=663883أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس ، وليسوا أهل كتاب ثبت جواز أخذها من سائر الكفار أهل كتاب كانوا أو غير أهل كتاب إلا عبدة الأوثان من
العرب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وبقوله تعالى :
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وهذا في عبدة الأوثان من
العرب ، ويدل على جواز
أخذ الجزية من سائر المشركين سوى مشركي العرب حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16589علقمة بن مرثد عن
ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=hadith&LINKID=674168كان إذا بعث سرية قال : إذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا [ ص: 286 ] رسول الله فإن أبوا فادعوهم إلى إعطاء الجزية .
وذلك عام في سائر المشركين ، وخصصنا منهم مشركي
العرب بالآية وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيهم .