وقوله:
ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ، الآية ، يدل على أن إقامة الشهادة تجب حيث لا يجد المستشهد غيره، وهو فرض على الكفاية، كالجهاد والصلاة على الجنائز وغسل الموتى ودفنهم، متى قام به قوم سقط عن الباقين.
[ ص: 259 ] ومعنى الفرض على الكفاية، أنه لا يجوز للكل الامتناع منه لما فيه من إبطال الوثائق وضياع الحقوق، ولا يتعين فرضه على كل أحد، فإنه لا خلاف أنه ليس على كل أحد من الناس تحملها، هذا أصل في فروض الكفايات الواجبة على الكافة، إلا أنهم إذا أدى بعضهم سقط عن الباقين، فإذا لم يكن في الكتاب إلا شاهدان، فقد تعين الفرض عليهما متى دعيا لإقامتهما بقوله:
ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا .
وقال تعالى:
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه (283).
وقال تعالى:
وأقيموا الشهادة لله .
وقال:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم .
وإذا كان عنهما مندوحة بإقامة غيرهما فقد سقط الفرض عنهما لما وصفناه.
قوله تعالى:
ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله يعني القليل الذي يعتاد تأجيله، ومعلوم أنه لم يرد به القيراط والدانق، إذ لا يعتاد المداينة بمثله إلى أجل.
وقوله:
إلى أجله يعني إلى محل أجله، فيدل ذلك على أنه يكتب الأجل في الكتاب ومحله، كما يكتب أصل الدين.
[ ص: 260 ] ويستدل به على أنه يكتب صفة الدين ونقده وجودته ومقداره، لأن الأجل بعض أوصافه، فحكم سائر أوصافه بمنزلته..
قوله تعالى:
ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة .
فيه بيان الغرض الذي لأجله أمر بالكتاب واستشهاد الشهود، والوثيقة والاحتياط للمتداينين عند الحاجة ورفع الخلاف، وبين الغرض الذي لأجله أمر بالكتاب، وأخبر بأن ذلك أنفى للريب، وأبقى للحق، وأدعى إلى رفع النزاع، وأنه إذا لم يكتب فيرتاب الشاهد، فلا ينفك بعد ذلك من أن يقيمها على ما فيها من الاختلاط والاحتياط، غير مراع شرائط الاحتياط، فيقدم على محظور أو يتركها فلا يقيمها فيضيع حق الطالب.
ويستدل بذلك على أن الشهادة لا تصح إلا مع القطع واليقين، وأنه لا يجوز إقامتها إذا لم يذكرها وإن عرف خطه، لأن الله تعالى أخبر أن الكتاب مأمور به لئلا يرتاب بالشهادة.
ويستدل به أيضا على أن هذا الاستشهاد والكتاب، إذا كان الاحتياط في المداينات فهي للاحتياط للنكاح، حتى لا يستشهد بمن ليس بمرضي من فاسق، ومجلود في قذف، وكافر وعبد، خلافا لمن زعم أن تلك الشهادة ليست للاحتياط، ومعلوم أن الشهادة في موضع الندب، إذا كانت للاحتياط، ففي موضع الوجوب أولى أن تكون للاحتياط..
قوله تعالى:
إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم (282)، فرخص في ترك الكتاب في التجارة الحاضرة رفعا للحرج.
ودل ظاهر قوله:
وأشهدوا إذا تبايعتم ، على أن الشهادة عامة في التجارات كلها.
[ ص: 261 ] وقد نسخ ذلك بقوله:
فإن أمن بعضكم بعضا (283)، وقد بينا ذلك فيما سلف.
قوله تعالى:
ولا يضار كاتب ولا شهيد .
قال ابن عباس: معناه أن يجيء الرجل إلى الكاتب فيقول: إني على حاجة، فيقول له: إنك قد أمرت أن تجيب، فلا يضار بمثل هذا القول.
وقال الحسن:
ولا يضار كاتب ولا شهيد أي لا يكتب ما لم يؤمر به ويزيد في الشهادة.
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن nindex.php?page=showalam&ids=16815وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء: ( .. لا يضار ) بكسر الراء..
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد: ( لا يضار ) بفتح الراء، فكانت إحدى الروايتين نهيا لصاحب الحق عن مضارة صاحب الحق، وكلاهما مستعمل، ومن مضارة الشاهد القاعد عن الشهادة إذا لم يكن سواه، فكذلك على الكاتب إذا لم يجد غيره..
قوله تعالى في التجارة:
فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وفرقه بينها وبين المؤجل يوهم بظاهره أن عليهم كتب الدين المؤجل والإشهاد فيه وأن الجناح يلحقهم إذا لم يكتبوها، ويبعد أن يقال في ترك المندوب إن عليه جناحا، ففي التجارة الحاضرة إن كان ترك الشهادة
[ ص: 262 ] دليلا على كون الشهادة مندوبا إليها، فتارك المندوب لا جناح عليه.
وقوله:
إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم، فليس عليكم جناح ألا تكتبوها (282)يدل على أن في غيرها عليهم جناحا.
ويقال في الجواب عن هذا: الجناح يطلق على الضرورة، فكأنه تعالى قال: لا ضرر عليهم في حياطة الأموال، لأن كل واحد تسلم ما استحق عليه بإزاء تسليم الآخر، ومتى لحقه ضرر وأفضى الأمر إلى منازعة ومشاجرة، فربما تداعى إلى الإثم واللجاج، فأراد بقوله:
فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ، أي ليس عليكم ذلك أيضا..
قوله تعالى:
وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم (282).
عطفا على ذكر المضارة، يدل على أن مضارة الطالب الكاتب والشهيد، ومضارتهما له فسق، بقصد كل واحد منهم إلى مضارة صاحبه بعد نهيه عنها.