قوله تعالى:
إذا قمتم إلى الصلاة ، الآية.
واعلم أن ظاهر الآية يعلق الوضوء بالقيام إلى الصلاة، وليس الأمر كذلك إجماعا، فلا بد من ضمير معه، وذلك هو الحدث. والذي هو الحدث إذا قدرناه علة، فتكرير العلة هو الذي يقتضي تكرير الحكم، والقيام إلى الصلاة ليس شرطا ولا علة. ولو قدر شرطا، فالحكم لا يتكرر بتكرر الشرط، فليس في الآية ما يدل على وجوب
الوضوء لكل صلاة من حيث اللفظ.
فإذا
قال القائل لامرأته: إذا دخلت الدار فإنك طالق، لم يتكرر الطلاق بتكرر الدخول، ولكن
التكرار في الطهارة عند تكرار الحدث لاعتقاد كون الحدث علة، والحكم يتكرر بتكرر العلة والسبب. إذا ثبت هذا، فالله تعالى يقول:
فاغسلوا وجوهكم .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس: عليه إمرار الماء على الموضع ودلكه بيده، وإلا لم يكن غاسلا. وقال غيره: عليه إجراء الماء وليس عليه دلكه. ولا شك في أنه إذا انغمس في الماء، أو غمس وجهه أو يده ولم يدلك، يقال: إنه قد غسل.
[ ص: 32 ] واعلم أنه لا تغيير في ذلك إلا حصول الاسم، وإذا حصل كفى ... والمعتبر أن يجرى عليه من الماء ما يزيد قدر المسح، فلو مسح المغسول لم يجز، فإن الله تعالى فرق بينهما، وليس في المسح غسل. نعم; إذا غسل الممسوح، جاز المأمور به وزيادة. ثم قوله:
فاغسلوا وجوهكم ليس يقتضي نية العبادة. نعم; قال تعالى:
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا . وظن ظانون من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي الذين يوجبون
النية في الوضوء أنه لما أوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة دل على أنه أوجبه لأجله وأثبته بسببه، وأنه أوجب له قصد النية.
وهذا ليس بصحيح، فإن إيجاب الله تعالى عليه الوضوء لأجل الحدث لا يدل على أنه يجب عليه أن ينوي ذلك، بل يجوز أن يجب لأجله، ويحصل دون قصد تعليق الطهارة بالصلاة، ونيتها لأجلها.
وقيل لهم: لما قال الله تعالى: ( اغسلوا وجوهكم ) أوجب فعل الغسل، فكانت النية شرطا في صحة الفعل، لأن الفرض من قبل الله تعالى، فينبغي أن يجب فعل ما أمره الله تعالى به. فإذا نحن قلنا: إن النية لا تجب عليه، لم يجب عليه الفعل أي: فعل ما أمره الله تعالى. ومعلوم أن الذي اغتسل تبردا أو لغرض آخر، ما قصد أداء الواجب، والذي وجب عليه فعله لا يحصل دون قصده. فإن قيل: قد يجب عليه أشياء عدة، وتحصل دون النية، مثل رد الغصوب والودائع وإزالة الأنجاس. فيقال: كل ذلك لا يجب عليه فيه فعل، وإنما ينهى عن استدامة
[ ص: 33 ] الغصب، ويجب عليه ترك ذلك، وهاهنا يجب عليه فعل الوضوء .
قالوا: وقد يجب على الرجل الإنفاق على قريبه وزوجته وقضاء ديونه، ولا يحتاج إلى النية. والجواب: أن كل ذلك معلق وجوبه على أغراض، متى حصلت تلك الأغراض لم يتحقق الوجوب، مثل النفقة تجب للكفاية، فإذا حصلت الكفاية لم تجب، أو لغرض آخر من الأغراض العاجلة، وليس أمر الطهارة كذلك، فإن وجوبها لم يكن إلا لحق التعبد. فإذا وجب الفعل لله تعالى، فما لم يفعل لله تعالى كان الأمر قائما، وليس فعل غير القاصد أداء للأمر ولا قياما به، فاعلمه.
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=11943الرازي في أحكام القرآن على هذا كلاما دل به على قلة تحصيله، فقال: إنما يجب ما ذكروه في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها، ولم تجعل شرطا لغيرها، فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فلا يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقارنه، والطهارة شرط للصلاة، فإن من لا صلاة عليه فليس عليه فرض الطهارة، كالحائض والنفساء. وهو الذي ذكره باطل، فإن كونه شرطا لغيره معناه: توقف وجوبه على وجوب فعل آخر، وذلك لا يدل على عدم وجوبه، ووجوب فعله، وقصد الامتثال فيه.
نعم، وجوبه لغيره يدل على أنه إذا نوى ما قد وجب لأجله كفاه، مثل أن ينوي الطهارة للصلاة أو لمس المصحف.
[ ص: 34 ] ومن علمائنا من شرط فيه نية القربة، لأنه رأى الطهارة واجبة تعبدا إلا أن وجوبها عند وجوب فعل آخر.
قالوا: الطهارة ليست واجبة تحقيقا، وإنما الصلاة ممتنعة دونها، كما أنها ممتنعة دون الستر والاستقبال وطهارة الثوب، ولذلك نقول: إنه إذا أراد قراءة القرآن وهو جنب اغتسل، وإذا أراد دخول مسجد وهو جنب اغتسل ، ليس لأن الطهارة واجبة في هذه الحالة، وكيف تجب والذي يظهر له من الفعل غير واجب؟ وإنما يحرم ذلك الفعل دون وجود شرط جوازه وهو الطهارة، وذلك ليس ينبي عن وجوبه في نفسه. وليس يمكن أن يقال: إن وجوب الصلاة يدل على وجوب ما لا بد منه للصلاة. لأنه يقال: ليس يجب عليه الفعل في نفسه، وإنما يحرم عليه أن يصلي محدثا أو أن يخرج عن كونه محدثا بإمرار الماء على الأعضاء، سواء كان في ذلك الوقت، أو توضأ قبل لمس مصحف أو قراءة قرآن وغير ذلك مما لا يجب من الأفعال. ويدل على أن الوضوء واجب من حيث الحقيقة أنه لو هوى من موضع عال من غير قصد منه إلا أنه على مسامتته ماء طاهر طهور، ونوى الوضوء صح.
ومعلوم أن النية قصد، والقصد يستدعي مقصودا، والمقصود ليس فعلا له، ولا يمكن أن يقال إن حصوله في الماء فعله، فإنه لا يتعلق باختياره، فالذي لا اختيار له فيه، كيف يقدر مقصودا له؟ وهذا كلام عظيم الوقع عند المتأملين. ويجاب عنه: بأن الطهارة واجبة حقيقة، فإنها وإن وجبت عند وجوب
[ ص: 35 ] غيرها، فليس من ضرورة تعلقها بغيرها، أو من ضرورة وجوب غيرها حقيقة مثل أخذ جزء من الرأس في استيعاب الوجه، فإنه لا بد منه للاستيعاب حقيقة، وأما العضو فإنه شرط شرعا، وإذا صار شرطا صار شرط وجوبه بالشرع. ومتى كان وجوبه بالشرع لم يخرج عن كونه واجبا.
وأما الذي ذكروه إنه لم يجب، ولكنه تحرم الصلاة مع الحدث، فيقال: ولا معنى للحدث إلا امتناع أفعال يتوقف وجودها على وجود شرطها، فهذا معنى الحدث لا غير.
وقوله: إنه لو أراد دخول مسجد أو قراءة قرآن وجب الغسل، لا لأن قراءة القرآن واجبة. فيقال: بل الأمر كما ذكرتم في أن القراءة لا تجب، ولكن للنوافل شروط يجب فعلها إذا أراد فعل النوافل، فإن من أراد مباشرة أمر وجب عليه مباشرة شروطه، إلا أن الشروط في ذواتها غير واجبة.
فأما إذا كانت الطهارة قد تقدمت فذلك لأن الشيء الواحد يكون شرطا في أشياء كثيرة، كما أن من الأشياء ما يكون شرطا في شيء واحد فليس في ذلك ما ينافي الحقيقة التي قلناها. وأما قولهم: إن الفعل لا يشترط، فاعلم أنه إن ثبت عدم الفعل الذي يتعلق به القصد من كل وجه، فلا وجه لجواز الوضوء ولا نصر
nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي فيه. قالوا: فإذا غسل غيره وجهه مع قدرته على الغسل، فأي فعل منه هاهنا؟
قلنا: بلى، وهو أن إذنه له أن يوضيه فعل منه يجوز أن يتعلق التكليف به والامتحان، كما قيل في الذي يقول للمسكين: خذ مالي هذا
[ ص: 36 ] عن جهة الزكاة، فإنه يصح، فإنه حصل به الامتحان والتكليف. وكذلك ما نحن فيه، أما إذا هوى من علو وفي مستقر وقوعه ماء، فلا يتحقق منه القصد الذي يمكن أن يتعلق به امتحان أو تكليف، فظهر الفرق بينهما.