صفحة جزء
قوله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية . وذلك مجاز، إلا أنه ذكر ذلك تشبيها بالمحارب حقيقة لأنه خرج في صورة المحاربة وأريد بهذا التشبيه تعظيم الأمر كما قال: ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله . ومعنى المشاقة: أن يصير كل واحد منهما في شق يتأثر به صاحبه، وقال: يحادون الله ورسوله . ومعنى المحادة: أن يسير كل واحد منهما في حد على وجه المفارقة، وذلك يستحيل على الله، إذ ليس في مكان فيشاق أن يحاد. [ ص: 64 ] وتجوز المباينة عليه والمفارقة، وذلك منه عن وجه المبالغة في إظهار المخالفة، وكان يجوز أن يسمى كل عاص بهذا الاسم، ولكن لم يرد ذلك. ويجوز أن يكون معناه: يحاربون أولياء الله ورسوله وهذا أولى، فإن الذي يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر، وقاطع الطريق ليس بكافر، وكأنه يريد بهذه الإضافة تعظيم المخالفة، وإكبار قدر المعصية، وقد ورد في التهديد ألفاظ تشاكل ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اليسير من الرياء شرك" . "من عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة" . وقوله عليه السلام لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام: "أنا حرب لمن حاربتم، سلم لمن سالمتم" . وإنما حملنا على هذا التأويل علمنا بأن الآية وردت في حق قطاع الطريق من المسلمين، ولذلك قال الله تعالى: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم .

ومعلوم أن الكفار لا يختلف حظهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة، كما تسقط قبل القدرة، فالمرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة، والمذكور في الآية من لم يستحق القتل. وفي الآية نفي من لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا ينفى، فعلمنا أن الآية حكمها جار في أهل الملة. والمرتد لا تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل، ولا يصلب أيضا، فدل ذلك على أن ما اشتملت عليه الآية ما عنى به المرتد. [ ص: 65 ] وقال تعالى في حق الكفار: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف . وقال في المحاربين: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم .

والذي ذكر من أن الآية نزلت في شأن العرنيين لا يحصلون ما يقولون، لأن العرنيين شملت أعينهم مع قطع أيديهم وأرجلهم، وتركوا في الحرة حتى ماتوا، ويستحيل نزول الآية بالأمر بقطع من قطع، وقتل من قتل. وقال ابن سيرين: كان أمر العرنيين قبل أن تنزل الحدود، فأخبر أنه كان قبل نزول الآية. والذين اعترفوا باختصاص الآية بقطاع الطريق من المسلمين، اختلفوا في أشياء أخر وراء ما ذكرناه. فقال قائلون من العلماء بما رووه عن ابن عباس: يقتلوا إن قتلوا. أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال. أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال فقط. أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل، ولم يفعلوا أكثر من ذلك، فلم يثبتوا تخييرا، وهو مذهب الشافعي .

واختلفت الروايات عن أبي حنيفة. [ ص: 66 ] ففي رواية أنه إذا حارب فقتل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب. فإن هو قتل ولم يأخذ المال نفي، وهذا يقارب الأول إلا في زيادة قطع اليد والرجل مضموما إلى الصلب والقتل.

وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال، قيل: إن الإمام فيه بالخيار. إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه. وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله. وإن شاء قتله ولم يقطع رجله ولم يصلبه. فإن أخذ مالا ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف. وإن لم يأخذ مالا ولم يقتل، عزر ونفي من الأرض، ونفيه حبسه.

وفي رواية أخرى: أوجع عقوبة وحبس حتى يحدث خيرا، وهو قول الحسن في رواية وسعيد بن جبير. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن اقتصروا على القتل قتلوا، وإن اقتصروا على أخذ المال، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإن أخذوا المال وقتلوا، فأبو حنيفة يقول: الإمام يتخير في أربع جهات: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم. وإن شاء قطع وصلب. وإن شاء صلب. وإن شاء قتل وترك القطع.

وقال آخرون: بل يخير الإمام في هذه الأحكام بمجرد خروجهم، وهو قول ابن المسيب ومجاهد والحسن، وهو قول مالك. [ ص: 67 ] فسوى مالك بين أن يقتلوا أو لا يقتلوا، أو يأخذوا المال أو لا يأخذوا، وخير الإمام إن شاء قتل، وإن شاء قطع خلافا، وإن شاء نفى، ونفيه حبسه، فهذا ما ذكره. ووافق في أنهم لو أخذوا المال ولم يقتلوا، لم يجز للإمام أن ينفيه، ويترك قطع يده ورجله. وكذلك لو قتلوا وأخذوا المال، لم يجز للإمام أن يعفيه من القتل والصلب. ولو كان الأمر على ما قالوه في التخيير، لكان التخيير ثابتا إذا أخذوا المال وقتلوا، أو أخذوا المال ولم يقتلوا، فكأنه يرى التخيير في إجراء حكم القاتل على غير القاتل، وإجراء حكم القطع على غير آخذ المال.

أما إسقاط حكم القطع عن آخذ المال أو القتل عن القاتل، فلا سبيل إليه أصلا. فالتخيير الثابت شرعا هو أن يتخير بين أنواع، كالتخيير في حق المشركين، يتخير بين أنواع; فمنها الأخف، ومنها الأغلظ، فأما أن يقال: إن عقوبة المجرم لا تسقط عنه، ولكن غيره يلحق به، فهذا ليس من التخيير في شيء. نعم، اعتقد مالك أن مجرم قطع الطريق كالقتل، قال: ولذلك قال الله تعالى: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، فدل أن الفساد في الأرض بمثابة قتل النفس. والذي ذكره واعتقده فاسد، فإن ما ذكره لا يوجب إجراء حكم [ ص: 68 ] الساعي بالفساد، على ما ذكر مجرى الساعي بالفساد، إذا ضم إلى سعيه في الأرض بالفساد القتل وأخذ المال، وقد وجد من القاتل وآخذ المال ما لم يوجد من الذي لم يقتل.. من قطع الطريق والفساد في الأرض والزيادة فلم سوى بينهما؟

ولو استوى حكمهما، لم يجز إسقاط القتل عنه، كما لم يجز إسقاطه عمن قتل، وإسقاط القطع عمن أخذ المال، وهذا لا جواب عنه.

فإن قيل: القاتل لا يختص، قلنا غلطتم، فإن لقطع الطريق أثرا في تغليظ جريمته، حتى لا تسقط بعفو المستحق، ويزداد بقطع الطريق قطع اليد والرجل معه، فلم يسقط. نعم; إذا تابوا من قبل أن نقدر عليهم، سقط ما يتعلق بقطع الطريق، وبقي ما تعلق بحق الآدمي، ولأن المراد بقوله: أو فساد في الأرض أي: فساد يجوز القتل معه، أو قتله في حالة إظهار الفساد على وجه الدفع، وإنما الكلام في الذي صار في يد الإمام. فقوله: أو فساد في الأرض محمول على هذا، وإلا فلو كان الفساد في الأرض عديل القتل ما جاز إسقاط القتل بالنفي، كما لا يجوز إذا قتل أن يقتصر في حقه على النفي.

التالي السابق


الخدمات العلمية