ولما أقام سبحانه الدليل على استحقاقهم للخلود في النار بكفرهم بالكتاب الذي كانوا يستفتحون بالآتي به أقام دليلا آخر على ذلك أبين منه وذلك بكفرهم بكتابهم نفسه فقال :
وإذا قيل لهم أي : هؤلاء الذين نقضوا عهود كتابهم ،
آمنوا بما أنـزل الله أي : الملك الذي له
[ ص: 47 ] الأمر كله مطلقا ، وعلى جهة العموم من الكتب والصحف .
ولما رفع مقدارهم بالدعاء إلى الإيمان بما أسند إلى هذا الاسم الأعظم ،
قالوا تسفيلا لأنفسهم ،
نؤمن بما أنـزل علينا فأسقطوا اسم من يتشرف بذكره ويتبرك باسمه وخصوا بعض ما أنزله ، ثم عجب من دعواهم هذه بقوله :
ويكفرون أي : قالوا ذلك ، والحال أنهم يكفرون
بما وراءه أي : وراء ما أنزل عليهم مما أنزل الله على رسله ، وهو يشمل ما قبل التوراة وما بعدها ، لأن وراء يراد بها تارة خلف وتارة قدام ، فإذا قلت : زيد ورائي ، صح أن يراد في المكان الذي أواريه أنا بالنسبة إلى من خلفي فيكون أمامي ، وأن يراد في المكان الذي هو متوار عني فيكون خلفي . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي : وراء ما لا يناله الحس ولا العلم حيث ما كان من المكان ، فربما اجتمع أن يكون الشيء وراء من حيث إنه
[ ص: 48 ] لا يعلم ويكون أماما في المكان ، انتهى .
وهو أي : والحال أن ذلك الذي وراءه هو :
الحق الواصل إلى أقصى غاياته بما دلت عليه "أل" ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14085الحرالي : فأنهاه لغاية الحق بكلمة "ال" لأن ما ثبت ولا زوال له لانتهائه هو : "الحق" ، وما ثبت وقتا ما ثم يتعقبه تكملة أو يقبل زيادة فإنما هو "حق" منكر اللفظ ، فإن بين المعروف بكلمة "ال" وبين المنكر أشد التفاوت في المعنى ، انتهى .
مصدقا لما معهم فصح أنهم كافرون بما عندهم ، لأن المكذب بالمصدق لشيء مكذب بذلك الشيء .
[ ص: 49 ] ثم كشف ستر مقالتهم هذه بأبين نقض فقال :
قل فلم أي : تسبب عن دعواكم هذه أن يقال لكم : لم
تقتلون أنبياء الله الملك الأعظم مع أن كتابكم محرم لمطلق القتل فكيف بقتل الأنبياء ! ثم بين أن كفرهم بهذا القتل إنما هو بطريق الرضى بقتل أسلافهم بقوله مثبتا الجار لأن ذلك كان منهم في بعض الأزمان الماضية :
من قبل وفي صيغة المضارع تصوير لشناعة هذا القتل بتلك الحال الفظيعة ورمز إلى أنهم لو قدروا الآن فعلوا فعلهم ، لأن التقدير : وتصرون على قتلهم من بعد ; وفيه إيماء إلى حرصهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرا منهم ، ولقد صدق هذا الإيماء الواقع ، فقد عزم
بنو النضير على أن يلقوا عليه صخرة ، وسمه أهل خيبر ، ثم أورد مضمون دعواهم بأداة الشك فقال :
إن كنتم مؤمنين إشعارا بأن مثل ذلك
[ ص: 50 ] لا يصدر من متلبس بالإيمان .