[ ص: 74 ] ولما ذكرهم بنعمة إنجاء الأبدان، أتبعها التذكير بأكبر منها؛ إذ كانت لحفظ الأديان وصيانة جوهرة الإيمان بما نصب لهم من الشرع في التوراة، فقال معجبا من حالهم إذ كان في الإنعام عليهم بنصب الشرع الهادي لهم من الضلال واختصاص نبيهم بمزيد القرب بالمناجاة، وهم في اتخاذ إله سواه، لا نفع فيه أصلا، ولا يرضى قلب أو عقل أن يعبده، عاطفا له على ما سبق تعجيبه به منهم في قوله:
وجاوزنا ببني إسرائيل وواعدنا أي: على ما لنا من باهر العظمة
موسى ثلاثين أي: مناجاة ثلاثين
ليلة أي: عقبها
وأتممناها أي: المواعدة
بعشر أي: ليال، وذلك لأنه لما مضت ثلاثون ليلة، وهو شهر ذي القعدة فيما قيل، وكان
موسى عليه السلام قد صامها ليلها ونهارها، أدرك من فمه خلوفا فاستاك، فأعلمه الله أنه قد أفسد ريح فمه، وأمره بصيام عشرة أيام أخرى [و] هي
عشر ذي الحجة ليرجع ما أزاله من ذلك، وذلك لأن
موسى عليه السلام كان وعد بني إسرائيل - وهو
بمصر - أنه إذا أهلك سبحانه عدوهم، أتاهم بكتاب من عنده فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما أهلك الله عدوهم سأل
موسى عليه السلام الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوما ثم أمره بالعشر.
ولما كان من الممكن أن يكون الثلاثون هي النهاية، وتكون مفصلة إلى عشرين ثم عشر، أزال هذا الاحتمال - بقوله:
فتم ميقات ربه [ ص: 75 ] أي: الذي قدره في الأزل لأن يناجيه بعده - بالفاء
أربعين ولما كانت العشر غير صريحة في الليالي، قال:
ليلة فانتفى أن تكون ساعات مثلا، وعبر بالميقات لأنه ما قدر فيه عمل من الأعمال، وأما الوقت فزمان الشيء سواء كان مقدرا أم لا، وعبر بالرب إشارة إلى اللطف به والعطف عليه والرحمة له، والميقات هو الأربعون - قاله
الفارسي في الحجة، وقدر انتصاب أربعين ب "معدودا هذا العدد" كما تقول: تم القوم عشرين، أي: معدودين هذا العدد وأجمل سبحانه الأربعين في البقرة لأن المراد بذلك السياق تذكيرهم بالنعم الجسام والمت إليهم بالإحسان والإكرام، ليكون ذلك أدعى إلى رجوعهم إلى الإيمان وأمكن في نزوعهم عن الكفران بدليل ما سبق قصتهم من قوله:
يا أيها الناس اعبدوا ربكم كيف تكفرون بالله وما اكتنفها أولا وآخرا من قوله: " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " الآيتين المبدوء بها والمختوم بها، وفصل هنا الأربعين إلى ثلاثين وعشر؛ لأن المراد بهذا السياق - كما تقدم - بيان كفرهم ومرودهم على خزيهم ومكرهم وأنه لم ينفعهم سؤال المعجزات، ولا أغنى عنهم شيئا تواتر النعم والآيات، كما كان ذلك في قصص الأمم الخالية والقرون الماضية ممن ذكر في هذه الصورة استدلالا - كما تقدم - على أن المفسد أكثر
[ ص: 76 ] من المصلح - إلى غير ذلك مما أجمل في قوله تعالى:
وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها إلى آخره، وتسلية لهذا النبي الكريم وترهيبا لقومه لما وقع لهم من العقاب الأليم، والفصل بين السياقين يدق إلا عن أولي البصائر، والله أعلم، فيكون المراد بتفصيل الأربعين هنا بيان أن إبطاء
موسى عليه السلام عما علموه من الميعاد إنما كان لعشرة أيام، فارتكبوا فيها هذه الجريمة التي هي أعظم الجرائم، وأشار تعالى إلى عظيم جرأتهم وعراقتهم في السفه بقوله عاطفا على
واعدنا وقال موسى أي: لما واعدناه
لأخيه ثم بينه تصريحا باسمه فقال:
هارون اخلفني أي: كن خليفتي فيهم تفعل ما كنت أفعل، وأكد الارتسام بما يجده له بقوله:
في قومي وأشار إلى حثه على
الاجتهاد بقوله:
وأصلح أي: كن على ما أنت عليه من إيقاع الإصلاح.
ولما كان عالما بأنه صلى الله عليه وسلم مبرأ من السوء غير أن عنده لينا قال:
ولا تتبع أي: تكلف نفسك غير ما طبعت عليه بأن تتبع
سبيل المفسدين أي: استصلاحا لهم وخوفا من تنفيرهم، فاختلفوا عن الطريق كما تفرس فيهم
موسى عليه السلام ولم يذكروا عاقبة فلا هم خافوا بطش من بطش بمن كان يسومهم سوء العذاب، ولا هم سمعوا لأخيه في الصلاح، ولا هم انتظروا عشرة أيام، فلا أخف منهم أحلاما ولا أشد على المعاصي إقداما.